المسألة الثانية في أن أخذ العامي بقول المجتهد ، هل يسمى تقليدا أم لا  ؟ فقيل : ليس بتقليد ، لأنه لا بد له من نوع اجتهاد ، وبه جزم القاضي  والغزالي  والآمدي   وابن الحاجب    . وحكاه العبادي  في زيادته " عن الأستاذ أبي إسحاق  ، لأنه بذل مجهوده في الأخذ بقول الأعلم . وقال القاضي  في مختصر التقريب " : الذي نختاره أن ذلك ليس بتقليد أصلا ، فإن قول العالم حجة في حق المستفتي . نصبه الرب علما في حق العامي ، فأوجب عليه العمل به ، كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده ، واجتهاده علم عليه . ويتخرج من هذا أنه لا يتصور تقليد مباح في الشريعة ، لا في الأصول ولا في الفروع . إذ التقليد على ما عرفه القاضي    : اتباع من لم يقم باتباعه حجة ولم يستند إلى علم . قال : ولو ساغ تسمية العامي مقلدا مع [ أن ] قول العالم في حقه واجب الاتباع جاز أن يسمى المتمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلدا . قال القاضي    : ولأنه يستند إلى حجة قطعية وهو الإجماع ، فلا يكون تقليدا . وهذا بناء منه على أحد تفسيري التقليد . 
 [ ص: 321 ] وذهب معظم الأصوليين - قاله إمام الحرمين    - إلى أنه مقلد له فيما يأخذه ، لأنا إن فسرناه بقبول القول بلا حجة فقد تحقق ذلك ، إذ قوله في نفسه ليس بحجة ، وإن فسرناه بقبول القول مع الجهل بمأخذه فهو متحقق في قول المفتي أيضا . قال ابن السمعاني    : ولعله الأولى ، لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه من الحكم قبل ، والإجماع سبق القاضي    . على أن العوام يقلدون المجتهدين ، ولو لم يكن تقليدا فليس في الدنيا تقليد . ومن نظر كتب العلماء والخلافيين وجدها طافحة بجعل العوام مقلدين ، ولهذا قال في المستصفى " بعدما ذكر أن العامي إذا أخذ بقول المجتهد فهو ظان صدقه ، والظن معلوم ، ووجوب الحكم عند الظن ، وهذا علم قاطع ، والتقليد جهل . فإن قيل : قد رفعتم التقليد من البين . وقال  الشافعي    : لا يحل لأحد تقليد أحد سوى الرسول ، فقد أثبت تقليدا . قلنا : قد صرح بإبطال التقليد إلا ما استثنى ، فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء ، وقبول خبر الواحد ، وشهادة العدول تقليدا . نعم ، يجوز تسمية قول الرسول تقليدا توسعا واستثناء من غير جنسه . ووجه التجوز أن يقول : قوله وإن كان حجة دلت على صدقه جملة فلا يطلب منه حجة على غير تلك المسألة ، فكان تصديقا بغير حجة خاصة ، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا . انتهى . وهذا أخذه من كلام القاضي  ، ولا يوافق على أن رجوع العامي ليس بتقليد ،  والقاضي  إنما قال ذلك بناء على أن المقلد شاك . ولم يقتصر الآمدي   وابن الحاجب  على ما فعل القاضي  والغزالي  بل زادا : لو سمى مسم الرجوع إلى من قوله حجة تقليدا فلا مشاحة في التسمية . قلت    : وبذلك صرح القاضي  في التقريب " أيضا . وهذا صحيح على قولنا . أما على قول القاضي  والآمدي  أن المقلد شاك فيمن يقلده فلا تنبغي هذه التسمية ، لخروجها عن وضع اللسان . ومن اعتقد أن المقلد شاك فينبغي أن يمنع من تسمية الرسول مقلدا ، وإذا عرفت المدارك هانت المسالك . 
 [ ص: 322 ] واعلم أن القاضي  والغزالي  يقولان : لا تقليد في الدنيا . وأما الآمدي  فيقول : لا تقليد في رجوع المرء إلى قول العامي ، والمجتهد إلى قول مثله ، يعني حيث لا يجوز له الأخذ به . وإنما قلنا ذلك ليخرج الأخذ بقوله عند ضيق الوقت ونحوه ، مما جوزه قوم . واعترض الآمدي    - تبعا للغزالي    - بأنه لو سمى مسم الرجوع إلى الرسول وإلى الإجماع والمفتي والشهود تقليدا بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ ،  وابن الحاجب  تبع الآمدي  ، وكذا  ابن الصلاح  صرح بما يوافقهم حكما . غير أنه أتى بغير تعريفهم للتقليد . وما صرح به من أن رجوع العامي إلى المفتي ليس بتقليد مع دعواه في كتاب أدب الفتيا " من منازعة الشيخ أبي علي  وأمثاله من كونهم ليسوا مقلدين  للشافعي  فعجب ، إذ كيف يقضى على أبي علي    - وهو الحبر - بالتقليد ، ولا يقضى بذلك على العامي الصرف ، وما ذاك إلا أنه وقت التعريف مع الغزالي  ، وعند الانفصال جرى على ما هو مقرر عند الفقهاء من أن رجوع العامي إلى المجتهد تقليد . وقد يأخذ المجتهد بقول مجتهد ، ولكن تسمية ذلك أخذا مجاز ، لأنه إنما أخذه منه لما أداه إليه نظره ، لا لكون ذلك قاله ، وإنما سمي القول قوله - إن سمي - لسبقه إليه كما نقول أخذ  الشافعي  بقول  مالك  ، أو بقول  أبي حنيفة  في مسائل سبقاه إلى القول بها . ومن تبحر في مذهب إمام ولم يبلغ رتبة الاجتهاد فأفتى على مذهب ذلك الإمام كان المستفتي مقلدا لذلك الإمام ، لا للمفتي . حكاه القاضي الحسين  عن شيخه القفال    . ذكره في الكافي " . وجزم به إمام الحرمين  في الغياثي " . وقال الرافعي  إنه المشهور للأصحاب ، إلا أن  أبا الفتح الهروي  أحد أصحاب الإمام صرح بأنه يقلد المتبحر في نفسه . وقال  ابن الصلاح    : ينبغي تخريج هذا على الخلاف في أن ما يخرجه أصحابنا على مذهب  الشافعي  هل يجوز أن ينسب إليه ؟ وفيه خلاف ، والمختار أنه لا يجوز . 
 [ ص: 323 ] مسألة قال  ابن فورك    : أقمنا الدلالة على أن التقليد ليس من طرق العلم بوجه ، لأن الرجوع إلى الدعوى لا يثمر علما ، لأن صورة دعوى المحق صورة دعوى المبطل ، وإنما يثمر بالدليل . 
				
						
						
