وزعم وتبعه القاضي أبو بكر إمام الحرمين وغيره أنها تكون غير مخلصة للاستقبال بل تكون للحال ، واحتجوا بذلك على المعتزلة في قوله تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } فقوله : { أن نقول } حال ; لأنه لو كان مستقبلا لزم أن يكون كلامه مخلوقا تعالى الله عز وجل عن ذلك . وتابعهم . وقال في كتاب " التسديد " : إن القول بتخليصها للاستقبال قول ضعفه النحاة ، وهذا عجيب . واحتج أبو الوليد الباجي إمام الحرمين بقول : " أن " مفتوحة على أوجه : أحدها : أن تكون " أن " وما تعمل فيه من الفعل بمنزلة مصادرها فكما أن المصدر لا يخص زمانا بعينه فكذلك ما كان بمنزلته وتضمن معناه . [ ص: 169 ] قال سيبويه : وكلام ابن خروف في هذا قوله : " أن " المفتوحة تكون على وجوه : أحدها : أن تكون " أن " وما تعمل فيه من الفعل بمنزلة مصادرها وباقي الكلام سيبويه لأبي المعالي ، وليس في كلام سيبويه أكثر من أن " أن " مع الفعل بتأويل مصدر ، ولا يلزم من جعل الشيء بمنزلة الشيء في حكم ما ، أن يشبهه من جميع الوجوه . وغرض أن " أن " مع الفعل بتأويل اسم يجري بوجوه الإعراب ، كقولك : أعجبني أن قمت ، ويعجبني أن تقوم فالأول ماض والثاني مستقبل . فإن أردت الحال قلت : يعجبني أنك تقوم ، فجئت بها مثقلة ، وإذا قلت : يعجبني قيامك احتمل الأزمنة الثلاثة ، ولأجل الدلالة على الزمان جيء بأن والفعل . سيبويه
وأما الآية الشريفة التي تمسك بها القاضي ومتابعوه فأجاب ابن عصفور فيما حكاه عن الصفار أن القول قد يكون خلاف الكلام لغة بدليل قوله : امتلأ الحوض . وقال : فجعل ما يفهم منه كلاما فيكون القول هنا متجوزا فيه : فكأنه قال : إنما أمره إذا علق إرادته على الشيء أن يعلقها عليه فيكون فجعل تعليق الإرادة على الشيء قولا ; لأنها يكون عنها الشيء كما يكون عن الأمر ، فلا يكون في ذلك إثبات خلق القرآن ، وهذا بناء على أن التعليق حادث . وفيه كلام ويمكن أن يقال : إنها للحال وهي حال مقدرة كما في مررت برجل معه صقر صائد به غدا ، فإن معناه مقدر ( إلا أن الصيد به غدا ) وذلك لا ينافي قول النحاة : أنها تخلصه للاستقبال . القرطبي
واحتجوا على أنها تكون للماضي بقوله تعالى : { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا } قالوا : فوقوع الماضي قبلها دليل على أنها [ ص: 170 ] تكون لغير الاستقبال ، وليس كما زعموا لما ذكرناه ، وبدليل أنهم لم يقتلوا على ما سلف منهم من الإيمان ، وبذلك ورد خبرهم في حديث الفتى والراهب والملك فذكرا بفعل قبلها بلفظ الماضي والثاني بلفظ المستقبل ليعم الأزمنة الثلاثة على حد قوله :
وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغورت النجوم
وتجيء [ أن ] للتعليل ، ولهذا لو قال : أنت طالق أن دخلت الدار بفتح أن وقع في الحال إن كان نحويا ; لأنها للتعليل ، ولا يشترط وجود العلة ، وقد ناظر فيه الكسائي محمد بن الحسن بحضرة الرشيد ، فزعم أنها بمعنى " إذ " محتجا بقوله تعالى : { الكسائي يمنون عليك أن أسلموا } وقوله : { أن دعوا للرحمن ولدا } وهو مذهب كوفي . وخالفهم البصريون وأولوا على أنها مصدرية أي : إسلامهم ولكن قبلها لام العلة مقدرة ، وبذلك يبطل انتصار السروجي في " الغاية " لمحمد فإن التعليل ملحوظ وإن لم يجعلها للتعليل ، وذلك يقتضي الإيقاع في الحال .تنبيه مهم في ، وذلك من أوجه : أحدها : دلالة الفعل على المضي أو الاستقبال بخلاف المصدر . الثاني : دلالة " أن " والفعل على إمكان الفعل دون وجوبه واستحالته بخلاف المصدر . الفرق بين أن والفعل والمصدر
[ ص: 171 ] الثالث : تحصير " أن " بمعنى الحدوث دون احتمال معنى زائد عليه ، فإن قولك : كرهت قيامك قد يكون لصفة في ذلك القيام ، وقولك : كرهت أن قمت يقتضي أنك كرهت نفس القيام . الرابع : امتناع الإخبار عن " أن " والفعل في نحو قولك : أن قمت خير من أن قعدت بخلاف المصدر . قاله السهيلي . الخامس : " أن " والفعل يدل على الوقوع بخلاف المصدر ، قاله صاحب " البسيط " من النحاة كذا نقله بعض المتأخرين . وإنما قال صاحب " البسيط " ذلك في " أن " المشددة لا المخففة ، ففرق بين عجبت من انطلاقك وعجبت من أنك منطلق بما ذكر . ثم ما قاله في المصدر يخالف قول أصحابنا في كتاب الظهار في مسألة : إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري ، ولم يكن ظهار فإنه يحكم به ظهار لإقراره . وقال ابن عطية : " أن " مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها . وقد تجيء في مواضع لا يلاحظ فيها الزمان ، وتفترقان في الأحكام في أمور منها : أنه لا يؤكد بأن والفعل بخلاف المصدر ; لأنه مبهم ، وهي معينة فكان المصدر المصرح به أشياء بما أكد ، فقال : ضربت زيدا ضربا ، ولا تقول : ضربت زيدا أن ضربت .
ومنها : أن المصدر الصريح قد يقع حالا ، وقد لا يقع ، و " أن " والفعل المنسبك منهما المصدر لا يقع حالا ألبتة . ومنها : أن المصدر لا يجوز أن ينوب مناب المفعولين في باب ظننت [ ص: 172 ] وينوب " أن " مع الفعل منابهما ، فلا تقول : ظننت قيامك ، وتقول : ظننت أن يقوم زيد . قاله الصفار ، وإنما جاز مع " أن " للطول . قال : وأجاز بعضهم ظننت قيام زيد على حذف المفعول الثاني أي : واقفا . ومنها : أن المصدر لا يحذف معه حرف الجر فلا تقول : عجبت ضربك تريد من ضربك ، ويحذف مع " أن " ، ذكره الصفار أيضا . ومنها : أن المصدر يقع قبله كل فعل ، ولا يقع قبل " أن " إلا أفعال الظن والشك ونحوها دون أفعال التحقيق ; لأنها تخلص الفعل للاستقبال ، وليس فيها تأكيد كما في " أن " ، فلم يكن بينها وبين فعل التحقيق نسبة . ومنها : أن المصدر يضاف إليه فيقال : جئت مخافة ضربك ، ولا يضاف إلى " أن " فلا يقال : مخافة أن تضرب ، وما سمع منه فإنه على حذف التنوين تخفيفا ، والمصدر عنده منصوب . قاله ابن طاهر . وزيفه الصفار بأنه لم يثبت في كلامهم حذف التنوين تخفيفا ، وإنما حذف لالتقاء الساكنين . وكلام الفقهاء في أن المستعير ملك أن ينتفع حتى لا يعير ، والمستأجر مالك المنفعة حتى إنه يؤجر يقتضي فرقا آخر .