( مسألة ) إن فلا ضمان ، وإن كان صاحبها معها وهو يقدر على منعها فلم يمنعها ضمن ووافقنا أرسلت الماشية بالنهار للرعي أو انفلتت فأتلفت الشافعي رضي الله عنهما ، وإن انفلتت بالليل ، وأرسلها مع قدرته على منعها ضمن ، وقاله وأبو حنيفة رضي الله عنه في الزرع وفي غير الزرع اختلاف عندهم وقالوا يضمن أرباب القطط المعتادة للفساد ليلا أفسدت أو نهارا ، وإن الشافعي ضمن أو الداخل بإذن فوجهان أو بغير إذن لم يضمن ، وإن خرج الكلب من داره فجرح لم يضمن ليلا أو نهارا وقال أرسل الطير فالتقطت حب الغير : رحمه الله لا ضمان في الزرع ليلا كان أو نهارا . أبو حنيفة
لنا وجوه الأول قوله تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } الآية ، وجه الدليل أن داود عليه السلام قضى بتسليم الغنم لأرباب الزرع قبالة زرعه وقضى سليمان عليه السلام بدفعها لهم ينتفعون بدرها ونسلها وخراجها حتى يخلف الزرع وينبت [ ص: 187 ] زرع الآخر والنفش رعي الليل والهمل رعي النهار بلا راع . الثاني أنه فرط فيضمن كما لو كان حاضرا . الثالث أنه بالنهار يمكنه التحفظ دون الليل وقد اعتبرتم ذلك في قولكم إن ضمن الراكب بخلاف الصغيرة لا يمكنه التحفظ منها والتحفظ من الكبيرة بالتنكب عنه وقلتم يضمن ما نفحت بيدها ؛ لأنه يمكنه ردها بلجامها ، ولا يضمن ما أفسدت برجلها وذنبها . احتجوا بوجوه : الأول قوله عليه السلام { رمت الدابة حصاة كبيرة أصابت إنسانا } الثاني القياس على النهار ، وما ذكرتموه من الفرق بالحراسة بالنهار باطل ؛ لأنه لا فرق بين من حفظ ماله فأتلفه إنسان أو أهمله فأتلفه أنه يضمن في الوجهين . الثالث : القياس على جناية الإنسان على نفسه ، وماله وجناية ماله عليه وجنايته على مال أهل الحرب أو أهل الحرب عليه وعكسه جناية صاحب البهيمة . والجواب عن الأول أن الجرح عندنا جبار إنما النزاع في غير الجرح واتفقنا على تضمين السائق والراكب والقائد وعن الثاني أن الفرق المتقدم ، وما ذكرتموه أن إتلاف المال بسبب المالك هاهنا فهو كمن جرح العجماء جبار فإنه لا يضمن وعن الثالث أنه قياس مخالف للآية ؛ لأنه بالليل مفرط بالنهار ليس بمفرط ، والجواب عن تلك النقوض أن أحدا منهم ليس من أهل الضمان ، وهاهنا أمكن التضمين . ترك غلامه يصول فيقتل
( سؤال ) قوله تعالى { ففهمناها سليمان } يقتضي أن حكمه كان أقرب للصواب مع أن حكم داود عليه السلام لو وقع في شرعنا أمضيناه ؛ لأن قيمة الزرع يجوز أن [ ص: 188 ] يؤخذ فيها غنم ؛ لأن صاحبها مفلس مثلا أو غير ذلك ، وأما حكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا من بعض القضاة ما أمضيناه ؛ لأنه إيجاب لقيمة مؤجلة ، ولا يلزم ذلك صاحب الحرث ؛ لأن الأصل في القيم الحلول إذا وجبت في الإتلافات ؛ ولأنه إحالة على أعيان لا يجوز بيعا ، وما لا يباع لا يعارض به في القيم فيلزم أحد الأمرين إما أن تكون شريعتنا أتم في المصالح ، وأكمل الشرائع أو يكون داود عليه السلام فهم دون سليمان عليه السلام وظاهر الآية خلافه وهو موضع مشكل يحتاج للكشف والنظر حتى يفهم المعنى فيه . ووجه الجواب أن المصلحة التي أشار إليها سليمان عليه السلام يجوز أن تكون أتم باعتبار ذلك الزمان بأن تكون مصلحة زمانهم كانت تقتضي أن لا يخرج عين مال الإنسان من يده إما لقلة الأعيان وإما لعدم ضرر الحاجة أو لعظم الزكاة للفقراء بأن تقدم للنار التي تأكل القربان أو لغير ذلك وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتم فيتغير الحكم كما أن النسخ حسن باعتبار اختلاف المصالح في الأزمنة فقاعدة النسخ تشهد لهذا الجواب .
( سؤال ) في قوله تعالى { وكنا لحكمهم شاهدين } المراد بالشهادة هاهنا العلم فما فائدة ذكره ، والتمدح به هاهنا بعيد فإن الله تعالى لا يمتدح بالعلم الجزئي ، وليس السياق سياق تهديد أو ترغيب حتى يكون المراد المكافأة كقوله تعالى { قد يعلم ما أنتم عليه } { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا } ونحوه جوابه أن هذه القصص إنما وردت لتقرير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى [ ص: 189 ] في صدر السورة حكاية عن الكفار { هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } فبسط الله سبحانه القول في هذه القصص ليبين الله تعالى أنه ليس بدعاء من الرسل ، وأنه يفضل من شاء من البشر وغيره ، ولا يخرج شيء عن حكمه ، ولا يفعل ذلك غفلة بل عن علم ولذلك فهم سليمان دون داود عليهما السلام لم يكن عن غفلة بل نحن عالمون فهو إشارة إلى ضبط التصرف ، وإحكامه إلى غير ذلك كما يقول الملك العظيم أعرضت عن زيد ، وأنا عالم بحضوره ، وليس مقصوده التمدح بالعلم بل بإحكام التصرف في ملكه فكذلك هاهنا .