( الفرق الثاني والخمسون والمائتان بين ) قاعدة ما يحرم من البدع وينهى عنه وبين قاعدة ما لا ينهى عنه منها
اعلم أن الأصحاب - فيما رأيت - متفقون على نص على ذلك إنكار البدع وغيره والحق التفصيل ، وأنها خمسة أقسام ابن أبي زيد
( قسم ) واجب ، وهو ما تتناوله قواعد الوجوب وأدلته من الشرع فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا ، وإهمال ذلك حرام إجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع
( القسم الثاني ) : محرم ، وهو بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم المنافية لقواعد [ ص: 203 ] الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وجعل المستند لذلك كون المنصب كان لأبيه ، وهو في نفسه ليس بأهل وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث
( القسم الثالث ) ، وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس ، وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فيتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح ، وقد كان من البدع مندوب إليه عمر يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ، ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النظام ؛ ولذلك لما قدم الشام ووجد قد اتخذ الحجاب وأرخى الحجاب ، واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية ، وسلك ما يسلكه الملوك ، فسأله عن ذلك فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له لا آمرك ، ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إلى هذا فيكون حسنا أو غير محتاج إليه فدل ذلك من معاوية بن أبي سفيان عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والقرون والأحوال فلذلك يحتاجون إلى تجديد [ ص: 204 ] زخارف وسياسات لم تكن قديما وربما وجبت في بعض الأحوال
( القسم الرابع ) ، وهي ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادات ومن ذلك في الصحيح ما خرجه بدع مكروهة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { مسلم } بقيام ، ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات كما ورد في التسبيح عقيب الصلوات ثلاثة وثلاثين فيفعل مائة وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة آصع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع ، وقلة أدب معه بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده ، والخروج عنه قلة أدب والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع ؛ لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل ، والمزيد عليه ؛ ولذلك نهى نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته عن مالك لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج إيصال ست من شوال أبو داود في سننه { عمر بن الخطاب : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له عليه السلام : أصاب الله بك يا ابن الخطاب } يريد أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين ، فقال له عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فاعتقدوا الجميع واجبا ، وذلك تغيير للشرائع ، وهو حرام إجماعا
( القسم الخامس ) ، وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي [ ص: 205 ] الآثار أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم البدع المباحة ؛ لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشريعة وأدلتها فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرهما ، وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر عما يتقاضاها كرهت فإن الخير كله في الاتباع ، والشر كله في الابتداع ولبعض السلف الصالح يسمى اتخاذ المناخل للدقيق أبا العباس الأبياني من أهل الأندلس ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن ، وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع ، ولا تبتدع اتضع ، ولا ترتفع من تورع لا يتسع