وله أمثلة : الأول أن ( القسم الثالث ) الذي ليس بكفر وهو محرم أن يطلب الداعي من الله تعالى نفي أمر دل السمع على نفيه ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } مع أن رسول الله قد قال { } رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقد دل هذا الحديث على أن هذه الأمور مرفوعة عن العباد فيكون طلبها من الله تعالى طالبا لتحصيل الحاصل فيكون سوء أدب على الله تعالى لأنه طلب عري عن الحاجة والافتقار إليه ولو أن أحدنا سأل بعض الملوك أمرا فقضاه له ، ثم سأله إياه بعد ذلك عالما بقضائه له لعد هذا الطلب الثاني استهزاء بالملك وتلاعبا به ولحسن من ذلك الملك تأديبه فأولى أن يستحق التأديب إذا فعل ذلك مع الله تعالى [ ص: 275 ] يقول {
ولو رأينا رجلا يقول اللهم افرض علينا الصلاة وأوجب علينا الزكاة واجعل السماء فوقنا والأرض تحتنا لبادرنا إلى الإنكار عليه لقبح ما صدر منه من التلاعب والاستهزاء في دعائه إلا أن يريد الداعي بقوله إن نسينا أي تركناه مع متعمد كقوله تعالى { اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } وقوله تعالى { نسوا الله فنسيهم } أي تركوا طاعته فترك الله الإحسان إليهم فهذا يجوز لأنه طلب العفو عما لم يعلم العفو فيه أما النسيان الذي هو الترك مع غفلة الذي هو مشتهر في العرف لا يجوز طلب العفو فيه ؛ لأن طلب العفو فيه وعنه قد علم بالنص والإجماع [ ص: 276 ]
وكذلك إذا أراد بقوله ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به أي من البلايا والرزايا والمكروهات جاز له ؛ لأنه لم تدل النصوص على نفي ذلك بخلاف التكاليف الشرعية فإنها مرفوعة بقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فيقتضي طلب رفع ذلك ، فإن أطلق العموم من غير تخصيص لا بالنية ولا بالعادة عصى لاشتمال العموم على ما لا يجوز فيكون ذلك حراما ؛ لأن فيه طلب تحصيل الحاصل ، فإن قلت فقد قال تعالى حكاية عن قوم في سياق المدح { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } ووعد الله سبحانه لا بد من وقوعه فقد طلب تحصيل الحاصل وهو عين ما نحن فيه ومدحهم الله تعالى فدل على جواز ذلك وأنت تمنعه قلت إنما جاز لهم سؤال ما وعدهم الله به ؛ لأن حصوله لهم مشروط بالوفاة على الإيمان .
وهذا شرط مشكوك فيه والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط فما طلبوا إلا مشكوكا في حصوله لا معلوم الحصول ، وأما ما نحن فيه فليس فيه شرط مجهول بل علم من الشريعة بالضرورة ترك المؤاخذة بالخطإ والنسيان مطلقا ، فإن قلت فإذا جوزت [ ص: 277 ] ذلك بناء على الجهالة بالشروط فيجوزه هاهنا بناء على الجهالة بالشرط فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبر بذلك مطلقا ، وإنما أخبر بالرفع عن أمته وكون الداعي يموت وهو من أمته مجهول فما طلب إلا مجهولا بناء على التقرير المتقدم .
قلت كونه من الأمة ليس شرطا في هذا الرفع ودلالة الخبر على ذلك إنما هي من جهة المفهوم ونحن نمنع لاختلاف العلماء فيه سلمنا أنه حجة لكنه متروك هاهنا إجماعا وتقريره أن نقول الكفار إما أن نقول إنهم مخاطبون بفروع الشريعة أو لا ، فإن قلنا إنهم ليسوا مخاطبين بها فالرفع حاصل لهم في جميع الفروع النسيان وغيره فبطل المفهوم واستوت الخلائق في الرفع حينئذ وإن قلنا إنهم مخاطبون بالفروع فلا يكون قد شرع في حقهم ما ليس سببا في حقنا بل كل ما هو سبب الوجوب في حقنا هو سبب الوجوب في حقهم ، وما هو سبب التحريم في حقنا هو سبب التحريم في حقهم ، وما هو سبب الترخيص والإباحة في حقنا هو كذلك في حقهم فعلى هذا التقدير لا يكون خصوص الأمة شرطا في الرفع ولم يقل أحد إن الكفار في الفروع أشد حالا من الأمة فظهر أن هذا المفهوم باطل اتفاقا فليس هناك في النسيان والخطإ شرط مجهول فيكون الشارع [ ص: 278 ] قد أخبر بالرفع في هذه الأمور مطلقا فيحرم الدعاء به . كون المفهوم حجة
( المثال الثاني ) أن ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في يقول الداعي ربنا لا تهلك هذه الأمة المحمدية بالخسف العام والريح العاصفة كما هلك من قبلنا وغيره من الصحاح أنه سأل ربه في إعفاء أمته من ذلك فأجابه فيكون طلب ذلك معصية كما تقدم . مسلم
( الثالث ) أن ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح بأنه { يقول اللهم لا تسلط على هذه الأمة من يستأصلها } فيكون الدعاء بذلك معصية لما مر . لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة
( الرابع ) أن فقد دلت النصوص على أن المصائب كفارات لأهلها ، وقد تقدم بيان أن السخط لا يخل بذلك التكفير بل يجدد ذنبا آخر كمن قضى دينه ، ثم استدان لا يقال إنه لم تبرأ ذمته من الدين الأول ، وكذلك المصاب بريء من عهدة الذنب الأول وإن كان قد جدد ذنبا آخر بسخطه فيكون هذا الدعاء معصية بل يقول [ ص: 279 ] اللهم عظم له الكفارة ، فإن قلت إن الله تعالى قد أخبر عن قوم في الدار الآخرة بأنهم يقولون { يقول الداعي لمريض أو مصاب اللهم اجعل له هذه المرضة أو هذه المصيبة كفارة وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } وهؤلاء ليسوا من أصحاب النار لقوله تعالى { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } ، وقد وردت الأحاديث أن من يدخل الجنة أو يكون في الأعراف لا يدخل النار وما علمت في هذا خلافا بين العلماء فيكون دعاؤهم بتحصيل الحاصل ولم يذكر الله تعالى ذلك في سياق الذم لهم مع أنهم سمعوا تلك النصوص في الدنيا وعلموا أن من سلم من النار في أول أمره لا يدخلها بعد ذلك قلت قال المفسرون هؤلاء أصحاب الأعراف وهم على خوف من سوء العاقبة ، وأهوال القيامة توجب الدهش عن المعلومات فقد قيل للرسل عليهم السلام { ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } لاستيلاء الخوف من الله على قلوبهم من جهة هول المنظر كذلك هؤلاء مع أن هؤلاء ليسوا مكلفين ولا ذم إلا مع التكليف .
الخامس أن ، وقد دل السمع على أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به فهذا محرم ؛ لأنه من باب [ ص: 280 ] تحصيل الحاصل وقلة الأدب بخلاف اللهم اغفر له فإنه كفر ؛ لأنه من باب تكذيب السمع القاطع يقول اللهم لا تغفر لفلان الكافر