( الفرق الخامس والمائة بين قاعدة صوم رمضان وست من شوال وبين قاعدة صومه وصوم خمس ، أو سبع من شوال )
اعلم أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { فكأنما صام الدهر صام رمضان وأتبعه بست من شوال } فورد في هذا الحديث مباحث للفضلاء ، وإشكالات للنبهاء وقواعد فقهية ومعان شريفة عربية . من
الأول : لم قال صلى الله عليه وسلم بست ولم يقل بستة ، والأصل في الصوم إنما هو الأيام دون الليالي واليوم مذكر والعرب إذا عدت المذكر أنثت عدده فكان اللازم في هذا اللفظ أن يكون مؤنثا ؛ لأنه عدد مذكر كما قال الله تعالى { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما } أنث مع المذكر وذكر مع المؤنث .
الثاني : لم قال من شوال أم لا . وهل لشوال مزية على غيره من الشهور
الثالث : لم قال بست ، وهل للست مزية [ ص: 190 ] على الخمس أو السبع أم لا .
الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم { } شبه صوم شهر وستة أيام بصوم الدهر مع أن القاعدة العربية أن التشبيه يعتمد المساواة أو للتقريب ، وأين شهر وستة أيام من صوم الدهر بل أين هو من صوم سنة فإنه لم يصل إلى السدس ونحن نعلم بالضرورة من الشريعة أن من عمل عملا صالحا ، وعمل الآخر قدره مرتين لا يحسن التشبيه بينهما فضلا عن أن يعمل مثله ست مرات ، ولا يقال : إن من صام يوما يشبه من صام يومين في الأجر ولا من تصدق بدرهم يشبه من تصدق بدرهمين في الأجر فضلا عمن تصدق بستة دراهم فإن ذلك يوهم التسوية بين ستة دراهم ودرهم ولا مساواة بينهما فيبعد التشبيه . فكأنما صام الدهر
الخامس : هل لنا فرق بين قوله صلى الله عليه وسلم { } وبين قوله فكأنه صام الدهر فإن " ما " هنا كافة لكأن عن العمل فدخلت لذلك على الفعل ولو لم تدخل ما لدخل كأن على الاسم فهل بين ذلك فرق أم لا . فكأنما صام الدهر
السادس : أن التشبيه بين هذا الصوم وصوم الدهر : كيف كان صوم الدهر أو على حالة مخصوصة ووضع مخصوص ، .
السابع : هل بين هذه الستة الأيام الواقعة في الحديث وبين الستة الأيام الواقعة في الآية في قوله تعالى { خلق السموات والأرض في ستة أيام } فرق أم لا فرق ، والحكمة في ذلك واحدة .
والجواب عن الأول أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال بست ولم يقل بستة ؛ لأن عادة العرب تغليب الليالي على الأيام فمتى أرادوا عد الأيام عدوا الليالي وتكون الأيام هي المرادة ولذلك قال تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ولم يقل وعشرة مع أنها عشرة أيام فذكرها بغير هاء التأنيث قال ولو قيل عشرة لكان لحنا ومنه قوله تعالى { الزمخشري إن لبثتم إلا عشرا } { نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما } قال العلماء يدل الكلام الأخير وهو قوله تعالى إلا يوما على أن المعدود الأول أيام فكذلك ههنا أتت العبارة بصيغة [ ص: 191 ] التذكير الذي هو شأن الليالي ، والمراد الأيام مثل هذه الآيات .
وعن الثاني أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال من شوال عند المالكية رفقا بالمكلف ؛ لأنه حديث عهد بالصوم فيكون عليه أسهل ، وتأخيرها عن رمضان أفضل عندهم لئلا يتطاول الزمان فيلحق برمضان عند الجهال قال لي الشيخ زكي الدين عبد العظيم المحدث رحمه الله تعالى إن الذي خشي منه رحمه الله تعالى قد وقع مالك بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم ، والقوانين ، وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد ويؤيد سد هذه الذريعة ما رواه أبو داود { مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الفرض وقام ليتنفل عقب فرضه ، وهنالك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب الله بك يا ابن الخطاب } ومقصود أن رجلا دخل إلى عمر رضي الله عنه أن إذا حصل معه التمادي اعتقد الجهال أن ذلك النفل من ذلك الفرض ولذلك شاع عند عوام اتصال النفل بالفرض مصر أن الصبح ركعتان إلا في يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات ؛ لأنهم يرون الإمام يواظب على قراءة السجدة يوم الجمعة ويسجد فيعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة ، وسد هذه الذرائع متعين في الدين وكان رحمه الله شديد المبالغة فيها . مالك
وقال الشافعية رحمهم الله : خصوص شوال مراد لما فيه من المبادرة للعبادة والاستباق إليها لقوله عز وجل { فاستبقوا الخيرات } و { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } ولظاهر لفظ الحديث ومن ساعده الظاهر فهو أولى وجوابهم ما تقدم من سد الذريعة وعن الثالث أن تظهر بتقرير معنى الستة وذلك أن شهرا بعشرة أشهر ، وستة أيام بستين يوما ؛ لأن الحسنة بعشرة والستون يوما بشهرين ، وشهران مع عشرة أشهر سنة [ ص: 192 ] كاملة فمن فعل ذلك في سنة هو بمنزلة من صام تلك السنة لتحصيله اثني عشر شهرا فإذا تكرر ذلك منه في جميع عمره كان كمن صام الدهر والمراد بالدهر عمره إلى آخره فلو قال سبعا لكان ذلك سبعين يوما ، وكان أزيد من شهرين فيكون أكثر من صيام الدهر وأعلى ، والأعلى لا يشبه بالأدنى فكان يبطل التشبيه ولو زاد على السبع لكان أولى بالبطلان ولو قال خمسا لكانت بخمسين يوما فينقص عن الشهرين فلا يحصل التشبيه الحقيقي وكذلك لو نقص أكثر من الخمس فظهر أن قاعدة الست مباينة للسبع فما فوقها وقاعدة الخمس فما دونها وهو كان المقصود بهذا الفرق ، وبقية الأسئلة تبع وزيادة في الفائدة ، والمنافاة في السبع فما فوقها أشد من المنافاة في الخمس فما دونها ؛ لأن تشبيه الأعلى بالأدنى منكر مطلقا وأما الأدنى بالأعلى فجائز إجماعا . مزية الست على السبع ، أو الخمس
غير أنه مع المساواة أحسن كما { قال صلى الله عليه وسلم لما آلمته رجله فمدها بين أصحابه فقال أي شيء تشبه هذه فأشكل ذلك على الصحابة رضوان الله عليهم أي شيء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمد رجله الأخرى وقال هذه } فكان ذلك من بسطه صلى الله عليه وسلم وتأنيسه مع أصحابه وكراهة أن يمد رجله بينهم إلا لعذر فأظهر هذا السؤال عذرا ، وذكر التشبيه مع المساواة فإن التفاوت بين الرجلين بعيد جدا .
وعن الرابع أن صائم سنة لا يشبه عند الله تعالى من صام شهرا وستة أيام ، وإنما معنى هذا الحديث أن من صام رمضان من هذه الأمة وستة أيام من شوال يشبه من صام سنة من غير هذه الملة ؛ لأن معنى قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } أي له عشر مثوبات أمثال المثوبة التي كانت تحصل لعامل من غير هذه الأمة فإن ، وإذا كان معنى قوله " عشر أمثالها " أمثال المثوبة التي كانت تحصل لمن كان قبلنا فيصير صائم رمضان كصائم عشرة أشهر من غير هذه الملة ، وصائم ستة بعده كصائم شهرين من غير هذه الملة فصائم المجموع كصائم سنة [ ص: 193 ] من غير هذه الملة فإذا تكرر ذلك منه كان كصائم جميع العمر من غير هذه الملة فهذا تشبيه حسن ، وما شبه إلا المثل بالمثل لا المخالف بالمخالف بل المثل المحقق من غير زيادة ولا نقصان فاندفع الإشكال . تضعيف الحسنات إلى عشر من خصائص هذه الأمة
وعن الخامس أنه لو قال صلى الله عليه وسلم فكأنه صام الدهر لكان بعيدا عن المقصود فإن المقصود تشبيه الصيام في هذه الملة إذا وقع على الوضع المخصوص بالصيام في غير هذه الملة لا تشبيه الصائم بغيره فلو قال فكأنه لكانت أداة التشبيه داخلة على الصائم وكان يلزم أن يكون هو محل التشبيه لا الصوم .
والمقصود تشبيه الفعل بالفعل لا الفاعل بالفاعل ، وإذا قال فكأنما ، وكفت " ما " دخلت أداة التشبيه على الفعل نفسه ووقع التشبيه بين الفعل والفعل باعتبار الملتين وهو المقصود بالتشبيه لتنبيه السامع لقدر الفعل وعظمته فتتوفر رغبته فيه فهذا هو المرجح لقوله " فكأنما " على " فكأنه " .
وعن السادس أن المراد صوم الدهر على حالة مخصوصة لا الدهر كيف كان وذلك أن صوم رمضان واجب ، وصوم الست مندوب فيكون نسبة الستة المقدرة في غير هذه الملة ، خمسة أسداسها فرض وسدسها وهو الشهران الناشئان عن الستة الأيام مندوبة ويكون معنى الكلام فكأنما صام الدهر ، خمسة أسداسه فرض وسدسه نفل ، وليس المراد صوم الدهر كله فرض ولا كله نفل ولا البعض فرض والبعض نفل على غير النسبة التي ذكرتها بل يتعين ما ذكرته تحقيقا للتشبيه ولما دل عليه الدليل من فرضية رمضان وندبية الست فلو كان الجميع مندوبا لقلنا المراد بالدهر صومه مندوبا ولو كان الجميع فرضا لقلنا المراد بالدهر جميعه فرضا ولو قال صلى الله عليه وسلم من صام ستة أيام بعد رمضان فكأنما صام شهرين لقلنا هما شهران مندوبان وكذلك نقول في قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } أي من جاء بالمندوبات فله عشر أمثال هذا المندوب أن لو فعله أحد من غير هذه الملة ومن جاء بالفرض من هذه الملة فله مثوبات عشر كل واحدة منها [ ص: 194 ] مثوبة هذا الفرض أن لو فعله أحد من غير هذه الملة وكذلك نقول في جميع رتب الواجبات والمندوبات ، وإن علت فظهر أن التشبيه إنما وقع على وجه خاص .
وعن السابع أن الست في هذا الحديث قد تقدمت حكمتها وهي كونها شهرين فتكمل السنة بها من غير زيادة ولا نقصان وأن هذا الحكم لا يحصل بما فوقها من العدد ولا بما دونها من العدد .
وأما الستة في الآية فقال بعض الفضلاء : الأعداد ثلاثة أقسام عدد تام وعدد زائد وعدد ناقص فالعدد التام هو الذي إذا جمعت أجزاؤه انقام منها ذلك العدد كالستة فإن أجزاءها النصف وهو ثلاثة والثلث اثنان والسدس واحد فلا جزء لها غير هذه ومجموعها ست وهو أصل العدد من غير زيادة ولا نقصان ، والأربعة لها نصف وربع خاصة ومجموعها ثلاثة فلم يحصل ذلك العدد فالأربعة عدد ناقص والعشرة لها نصف وهو خمسة وخمس وهو اثنان وعشر وهو واحد ، ومجموعها ثمانية فهو عدد ناقص والاثنا عشر لها نصف وهو ستة وثلث وهو أربعة وسدس وهو اثنان ونصف سدس وهو واحد ومجموعها ثلاثة عشر فهو عدد زائد ، والمقصود من الأجزاء أن تكون بغير كسر في هذه الطريقة فالعدد الناقص عندهم كآدمي خلق بغير يد ، أو عضو من أعضائه فهو معيب ، والعدد الزائد أيضا معيب ؛ لأنه كإنسان خلق بإصبع زائدة ، والعدد التام كإنسان خلق خلقا سويا من غير زيادة ولا نقص وهو عندهم أفضل الأعداد كما أن الإنسان السوي أفضل الآدميين خلقا ، وإذا تقرر أن الستة عدد تام محمود فهو أول الأعداد التامة فلذلك ذكر لتمامه ولأنه أولها وذكره الله تعالى في قوله { خلق السموات والأرض في ستة أيام } وكان المقصود تنبيه العباد على أن الإنسان مع القدرة على التعجيل ينبغي أن يكون فيه أناة فما دخل الرفق في شيء إلا زانه ولا فقد من شيء إلا شانه { عبد القيس إن فيك [ ص: 195 ] لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة } وهذا المعنى يحصل بذكر العدد كيف كان لكن يرجح هذا بأنه أول عدد يكون تاما ووقع في الحديث لغير هذا الغرض كما تقدم فالبابان مختلفان . قال عليه الصلاة والسلام لأشج