أحدها فإنهم خلقوا من نور [ ص: 225 ] ويسير تفضيل الملائكة الكرام صلوات الله عليهم على الجان بسبب جودة أبنيتهم وحسن تركيبهم جبريل عليه السلام من العرش إلى الفرش سبعة آلاف سنة في لحظة واحدة ويحمل مدائن لوط الخمسة من تحت الأرض على جناحه لا يضطرب منها شيء بل يقتلعها من تحتها على هذا الوجه ويصعد بها إلى الجو ثم يقلبها وهذا عظيم .
والملك الواحد من الملائكة يقهر الجمع العظيم من الجان ولذلك سأل سليمان عليه السلام ربه تعالى أن يولي على الجان الملائكة ففعل له ذلك فهم الزاجرون لهم اليوم عند العزائم وغيرها التي يتعاطاها أهل هذا العلم فيقسمون على الملائكة بتلك الأسماء التي تعظمها الملائكة فتفعل في الجان ما يريده المقسم عليهم بتلك الأسماء المعظمة وكانوا قبل زمن سليمان عليه السلام يخالطون الناس في الأسواق ويعبثون بهم عبثا شديدا فلما رتب سليمان هذا الترتيب وسأله من ربه انحازوا إلى الفلوات والخراب من الأرض فقلت أذيتهم والملائكة تراقبهم في ذلك فمن عبث منهم وعثا ردوه ، أو قتلوه كما يفعل ولاة بني آدم مع سفهائهم وما سبب اقتدار الملائكة على الجان إلا فضل أبنيتهم ووفور قوتهم فهم مفضلون على الجان من هذا الوجه مضافا لبقية الوجوه ، وهذه النكتة ينتفع بها كثيرا في النصوص الدالة على تفضيل الملائكة على البشر فإن الصحيح أن البشر أفضل على تفصيل يذكر في موضعه فإذا قصد الجواب عن تلك النصوص حمل ذلك التفضيل والثناء على الأبنية وجودة التركيب إذا كان النص يحتمل ذلك فيندفع أكثر الأسئلة والنقوض عن المستدل على أفضلية الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا نزاع أن الملائكة أفضل في أبنيتهم وأن أبنية بني آدم خسيسة [ ص: 226 ] بالنسبة إلى أبنية الملائكة فتحمل آية التفضيل على ذلك .
وثانيها تفضيل الجان على بني آدم في الأبنية وجودة التركيب من جهة أنهم يعيشون الآلاف من السنين فلا يعرض لهم الموت وكذلك لا تعرض لهم الأمراض والأسقام التي تعرض لبني آدم بسبب أن أجسادهم ليست مشتملة على الرطوبات وأجرام الأغذية فلا يحصل العفن ولا آفات الرطوبات التي تعرض لبني آدم فلذلك كثر بقاؤهم وطال ، وأسرع لبني آدم الموت ومما ورد في ذلك قول الشاعر في الجان لما ورد عليه بالليل وهو يقيد النار :
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم
زعيم يحسد الإنس الطعاما لقد فضلتم بالأكل عنا
ولكن ذاك يعقبكم سقاما
وقال جماعة من العلماء الغزالي رحمه الله في الإحياء وغيره : إنهم يتغذون من الأعيان بروائحها ولذلك جاء في الحديث { أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مر أمتك لا يستجمروا بروث ولا عظم فإنها طعامنا وطعام دوابنا } مع أنا نجد العظم يمر عليه الدهر الطويل لا يتغير منه شيء فدل ذلك على أنهم يتغذون بالرائحة ورأيت في بعض الكتب عن أنهم طوائف منهم من يتغذى بالرائحة ومنهم من يتغذى بجرم الغذاء ومنهم طائر لا يأوي في الأرض ومنهم من يأوي في الأرض يرحلون وينزلون في البراري كالأعراب ، وإن أحوالهم مختلفة في ذلك وعلى الجملة فتراكيبهم أعظم وسيرهم في الأرض أيسر فيسيرون المسافة الطويلة في الزمن القصير ولذلك تؤخذ عنهم أخبار الوقائع والحوادث في البلاد البعيدة عنا بسبب سرعة حركتهم وتنقلهم على وجه الأرض واتخذهم وهب بن منبه سليمان عليه السلام لأعمال تعجز عنها البشر [ ص: 227 ] بسبب فرط قوتهم قال الله تعالى { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب } ولهم قوة التنقل على التصور في كل حيوان أرادوا فتقبل بنيتهم التنقل إلى الحيات والكلاب والبهائم وصور بني آدم وهذا لا يتأتى إلا مع جودة البنية ولطافة التركيب وبنيتنا نحن لا تقبل شيئا من هذا ؛ لأنا خلقنا من تراب شأنه الثبوت والرصافة والدوام على حالة واحدة وخلقوا من نار شأنها التحرك وسرعة الانتقال واللطافة وهذا المعنى هو الذي غر إبليس فأوجب له الكبر على آدم - صلوات الله عليه - وترك أن الله يفضل من يشاء على من يشاء ويحكم ما يريد فجاء بالاعتراض في غير موضعه فهلك .
وثالثها تفضيل الذهب على الفضة بجودة البنية فإن بنية الذهب ملتزة متداخلة ، وبنية الفضة متفشفشة رخوة وسبب ذلك من حيث العادة ما ذكره المتحدثون عن المعادن أن طبخ الذهب طال تحت الأرض بحر الشمس أربعة آلاف سنة ، والفضة لم يحصل لها ذلك فكان بنية الذهب أفضل من بنية الفضة .
( القاعدة العشرون ) التفضيل باختيار الرب تعالى لمن يشاء على من يشاء ولما يشاء على ما يشاء فيفضل أحد المتساويين من كل وجه على الآخر كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع وتفضيل فاتحة الكتاب داخل صلاة الفرض على الفاتحة خارج الصلاة فإن الواجب أفضل مما ليس بواجب وكذلك تفضيل حج الفرض على تطوعه والأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة إذا تقررت هذه القواعد في أسباب التفضيل .
فاعلم أن هذه الأسباب الموجبة للتفضيل قد تتعارض فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها والتفضيل إنما يقع بين المجموعات وقد يختص المفضول ببعض الصفات الفاضلة ولا يقدح ذلك في التفضيل عليه لقوله صلى الله عليه وسلم { علي وأفرضكم زيد وأقرؤكم وأعلمكم بالحلال والحرام أبي معاذ بن جبل } رضي الله عنهم مع أن أقضاكم أبا بكر رضي الله عنه أفضل الجميع وكاختصاص سليمان عليه السلام بالملك العظيم ونوح عليه السلام [ ص: 228 ] بإنذار المئين من السنين وآدم صلى الله عليه وسلم بكونه أبا البشر مع تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على الجميع فلولا هذه القاعدة وهي تجويز اختصاص المفضول بما ليس للفاضل للزم التناقض واعلم أن تفضيل الملائكة والأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين إنما هو بالطاعات وكثرة المثوبات والأحوال السنيات وشرف الرسالات والدرجات العليات فمن كان فيها أتم فهو أفضل وكذلك التفضيل بين العبادات إنما هو بمجموع ما فيها فقد يختص المفضول بما ليس للفاضل كاختصاص الجهاد بثواب الشهادة والصلاة أفضل منه وليس فيها ذلك والحج أفضل من الغزو ، وكذلك الحج فيه تكفير الذنوب كبيرها وصغيرها وجاء في الحديث { } وهو يقتضي الذنوب كلها والتبعات ؛ لأنه يوم الولادة كان كذلك . من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
وقد ورد في بعض الأحاديث { أن الله تعالى تجاوز لهم عن الخطيئات وضمن عنهم التبعات } والصلاة ليس فيها ذلك مع أنها أفضل من الحج ، وما ذلك إلا لأنه يجوز أن يختص المفضول بما ليس للفاضل وقد تقدم أن الشيطان يفر من الأذان والإقامة ولا يفر من الصلاة مع أنها أفضل منهما وقد تقدم تفضيله وأنه يخرج على هذه القاعدة ، ثم اعلم أن المفضولات منها ما يطلع على سبب تفضيله ومنها لا يعلم إلا بالسمع المنقول عن صاحب الشريعة كتفضيل مسجده صلى الله عليه وسلم وأن الصلاة فيه خير من ألف صلاة في غيره وفي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة وفي بيت المقدس بخمسمائة صلاة وهذه أمور لا تعلم إلا بالسمعيات ومن تفضيل المدينة على مكة عند رحمه الله مالك ومكة على المدينة عند رضي الله عنه لا يعلم ذلك إلا بالنصوص وقد ذكرت في مواضعها من الفقه ، وإنما المقصود ههنا تحرير القواعد الكلية والتنبيه عليها أما جزئيات المسائل ففي مواضعها تنبيه يطلع منه على تفضيل الصلاة على سائر العبادات فنقول تقرر أن تصرف العباد على أربعة أقسام الشافعي
أحدها حق الله تعالى [ ص: 229 ] فقط كالمعارف وكالإيمان بما يجب ويستحيل ويجوز عليه سبحانه وتعالى .
وثانيها حق العباد فقط بمعنى أنهم متمكنون من إسقاطه ، وإلا فكل حق للعبد ففيه حق لله تعالى وهو أمره عز وجل بإيصاله إلى مستحقه كأداء الديون ورد الغصوب والودائع .
وثالثها حق لله تعالى وحق للعباد والغالب مصلحة العباد كالزكوات والصدقات والكفارات وكالأموال المنذورات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف .
ورابعها حق لله تعالى وحق لرسوله صلى الله عليه وسلم وللعباد كالأذان فحقه تعالى التكبيرات والشهادة بالتوحيد وحق رسوله الشهادة له بالرسالة وحق العباد الإرشاد للأوقات في حق النساء والمنفردين والدعاء للجماعات في حق المقتدين والصلاة مشتملة على حق الله تعالى كالنية والتكبير والتسبيح والتشهد والركوع والسجود وما يصحبها من الحركات والتروك والكف عن الكلام وكثير الأفعال وعلى حقه صلى الله عليه وسلم كالصلاة عليه والتسليم عليه والشهادة له بالرسالة وعلى حق المكلف وهو دعاؤه لنفسه بالهداية والاستقامة على العبادة وغيرها ، والقنوت ودعاؤه في السجود والجلوس لنفسه وقوله السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتسليم آخر الصلاة على الحاضرين ولهذه الوجوه ونحوها كانت الصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { } فهي من المفضلات التي علم سبب تفضيلها أفضل أعمالكم الصلاة