( الفرق الثمانون والمائة بين قاعدة الملك وقاعدة التصرف )
اعلم أن الملك أشكل ضبطه على كثير من الفقهاء فإنه عام يترتب على أسباب مختلفة البيع والهبة والصدقة والإرث وغير ذلك فهو غيرها ولا يمكن أن يقال هو التصرف ؛ لأن المحجور عليه يملك ولا يتصرف فهو حينئذ غير التصرف فالتصرف والملك كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فقد يوجد التصرف بدون الملك كالوصي والوكيل والحاكم وغيرهم يتصرفون ولا ملك لهم ويوجد الملك بدون التصرف كالصبيان والمجانين وغيرهم يملكون ولا يتصرفون ويجتمع في حق البالغين الراشدين النافذين للكلمة الكاملين الأوصاف ، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه والأخص من وجه أن يجتمعا في صورة وينفرد كل واحد منهما بنفسه في صورة كالحيوان والأبيض ، والعبارة الكاشفة عن حقيقة الملك أنه حكم شرعي مقدر في العين أو المنفعة [ ص: 209 ] يقتضي يمكن من يضاف إليه من انتفاعه بالملوك والعوض عنه من حيث هو كذلك أما قولنا حكم شرعي فبالإجماع ؛ ولأنه يتبع الأسباب الشرعية ، وأما إنه مقدر فلأنه يرجع إلى تعلق إذن الشرع ، والتعلق عدمي ليس وصفا حقيقيا ، بل يقدر في العين أو المنفعة عند تحقق الأسباب المفيدة للملك [ ص: 210 ] الملك والتصرف
وقولنا في العين أو المنفعة فإن الأعيان تملك كالبيع والمنافع كالإجارات وقولنا يقتضي انتفاعه بالمملوك ليخرج التصرف بالوصية والوكالة وتصرف القضاة في أموال الغائبين والمجانين فإن هذه الطوائف لهم التصرف بغير ملك وقولنا والعوض عنه ليخرج عنه الإباحات في الضيافات فإن الضيافة مأذون فيها ، وليست مملوكة على الصحيح ويخرج أيضا الاختصاصات بالمساجد والربط والخوانق ومواضع المطاف والسكك ومقاعد الأسواق ، فإن هذه الأمور لا ملك فيها مع المكنة الشرعية من التصرف في هذه الأمور [ ص: 211 ] وقولنا من حيث هو كذلك إشارة إلى أنه يقتضي ذلك من حيث هو ، وقد يتخلف عنه ذلك لمانع يعرض كالمحجور عليهم لهم الملك ، وليس لهم المكنة من التصرف في تلك الأعيان المملوكة ، لكن تلك الأملاك في تلك الصور لوجود النظر إليها اقتضت مكنة التصرف وإنما جاء المنع من أمور خارجة ولا تنافي بين القبول الذاتي والاستحالة لأمر خارجي ولذلك نقول إن جميع أجزاء العالم لها القبول للوجود والعدم بالنظر إلى ذواتها وهي إما واجبة لغيرها إن علم الله تعالى وجودها أو مستحيلة لغيرها إن علم الله تعالى عدمها ، وكذلك ها هنا بالنظر إلى الملك يجوز التصرف المذكور وبالنظر لما عرض من الأسباب الخارجة يقتضي المنع من التصرف [ ص: 212 ]
وكذلك إذا قلنا الأوقاف على ملك الواقفين مع أنه لا يجوز لهم البيع وملك العوض عنها بسبب ما عرض من الوقف المانع من البيع كالحجر المانع من البيع فقد انطبق هذا الحد على الملك فإن ، قلت قد قالت الشافعية إن الضيافة تملك وهل بالمضغ أو بالبلع أو غير ذلك على خلاف عندهم ، فهذا ملك مع أن الضيف لا يتمكن من أخذ العوض على ما قدم له ولا يمكن من إطعامه لغيره ولذلك قال المالكية إن الإنسان قد يملك أن يملك وهل يعد مالكا أو لا قولان فمن ملك أن يملك لا يتمكن من التصرف ولا أخذ العوض من ذلك الشيء الذي ملك أن يملكه مع أنهم قد صرحوا بحقيقة الملك من حيث الجملة ، وكذلك قال المالكية وغيرهم إن الإنسان قد يملك المنفعة ، وقد يملك الانتفاع فقط كبيوت الدارس والأوقاف والربط ونحوها مع أنه في هذه الصور لا يملك أخذ العوض عن تلك المنافع قلت أما السؤال الأول فإن الصحيح في الضيافات أنها إباحات لا تمليك [ ص: 213 ] كما أباح الله السمك في الماء والطير في الهواء والحشيش والصيد في الفلاة لمن أراد تناوله ولا يقال إن هذه الأمور مملوكة للناس كذلك الضيف جعل له أن يأكل إن أراد أو يترك ، والقول بأنه يملك مشكل فإن الملك لا بد فيه من سلطان التصرف من حيث الجملة وبعد إن بلع الطعام كيف يبقى سلطان بعد ذلك على الانتفاع بتلك الأعيان ؛ لأنها فسدت عادة ولم تبق مقصودة التصرف ألبتة فالحق إذا أنها إباحات لا تمليكات [ ص: 214 ]
( وأما ) السؤال الثاني فقول المالكية إن من قولان قد تقدم أن هذه العبارة رديئة جدا وأنها لا حقيقة لها فلا يصح إيراد النقض بها على الحد ؛ لأنا نمنع الحكم فيها ( وأما ) السؤال الثالث وهو ملك أن يملك هل يعد مالكا أو لا فهو يرجع إلى الإذن والإباحة كما في الضيافة ، فتلك المساكن مأذون فيها لمن قام بشرط الواقف [ ص: 215 ] إلا أنها فيها ملك لغير الواقف بخلاف ما يطلق من الجامكيات فإن المالك فيها يحصل لمن حصل له شرط الواقف فلا جرم صح أخذ العرض بها أو عنها ( فإن ، قلت ) إذا اتضح حد الملك فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو الأحكام الخمسة ( مالك الانتفاع دون المنفعة قلت ) الذي يظهر لي أنه من أحد الأحكام الخمسة وهو إباحة خاصة في تصرفات خاصة ، وأخذ العوض عن ذلك المملوك [ ص: 216 ] على وجه خاص كما تقررت قواعد المعاوضات في الشريعة وشروطها وأركانها وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق ولذلك قلنا إنه معنى شرعي مقدر يريد أنه متعلق الإباحة .
والتعليق عدمي من باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان ، بل في الأذهان فهي أمر يفرضه العقل كسائر النسب والإضافات كالأبوة والبنوة والتقدم والتأخر وغير ذلك ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنقول إن كذلك ويستقيم الحد بهذا اللفظ أيضا ويكون الملك من خطاب التكليف ؛ لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة وخطاب الوضع هو نصب الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية ، وليس هذا منها ، بل هو إباحة خاصة ومنهم من قال إنه من خطاب الوضع وهو بعيد ( فإن قلت ) الملك سبب الانتفاع ، فيكون سببا ، فيكون [ ص: 217 ] من باب خطاب الوضع الملك إباحة شرعية في عين أو منفعة تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أو أخذ العوض عنهما من حيث هي قلت وكذلك كل حكم شرعي سبب لمسببات تترتب عليه من مثوبات وتعزيرات ومؤاخذات وكفارات وغيرها أو ليس المراد بخطاب الوضع مطلق الترتب ، بل نقول الزوال سبب لوجوب الظهر ، ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سبب الثواب وتركه سبب العقاب ووجوبه سبب لتقديمه على غيره من المندوبات وغير ذلك مما ترتب على الوجوب مع أنه لا يسمى سببا ولا يقال إنه من خطاب الوضع ، بل الضابط للبابين أن الخطاب متى كان متعلقا بفعل مكلف على وجه الاقتضاء أو التخيير فهو من خطاب التكليف ومتى لم يكن كذلك وهو من أحد الأمور المتقدمة فهو خطاب الوضع ، وقد يجتمع ، وقد تقدم بسط ذلك فيما تقدم من الفروق ( فإن قلت ) الملك حيث وجد هل يتصور [ ص: 218 ] في الجواهر والأجسام أم لا يتصور إلا في المنافع خاصة . خطاب الوضع وخطاب التكليف
( قلت ) قال رحمه الله في شرح التلقين قول الفقهاء الملك في المبيع يحصل في الأعيان وفي الإجارات يحصل في المنافع ليس على ظاهره ، بل الأعيان لا يملكها إلا الله تعالى ؛ لأن الملك هو التصرف ولا يتصرف في الأعيان إلا الله تعالى بالإيجاد والإعدام والأمانة والإحياء ونحو ذلك وتصرف الخلق إنما هو في المنافع فقط بأفعالهم من الأكل والشرب والمحاولات والحركات والسكنات قال وتحقيق الملك أنه إن ورد على المنافع مع رد العين فهو الإجارة وفروعها من المساقاة والمجاعلة والقراض ونحو ذلك وإن ورد على المنافع مع أنه لا يرد العين ، بل يبذلها لغيره بعوض أو بغير عوض فهو البيع والهبة والعقد في الجميع إنما يتناول المنفعة فقد ظهر بهذه المباحث وهذه الأسئلة المازري وما يتوهم التباسه به . حقيقة الملك والفرق بينه وبين التصرفات