فصل
الحكم الثاني: قوله ، وفي هذا من حصر التحريم في التكبير نظير ما تقدم في حصر مفتاح الصلاة في التطهر من الوجهين، وهو دليل بين أنه وتحريمها التكبير لا تحريم لها إلا التكبير.
وهذا قول الجمهور وعامة أهل العلم قديما وحديثا. وقال ينعقد بكل لفظ يدل على التعظيم. فاحتج الجمهور عليه بهذا الحديث. أبو حنيفة:
ثم اختلفوا، فقال أحمد وأكثر السلف: يتعين لفظ "الله أكبر" وحدها وقال ومالك، يتعين أحد اللفظين: "الله أكبر"، أو "الله الأكبر"، وقال الشافعي: أبو يوسف: يتعين التكبير وما تصرف منه، نحو: "الله الكبير"، ونحوه، وحجته: أنه يسمى تكبيرا حقيقة، فيدخل في قوله . تحريمها التكبير
وحجة أن المعرف في معنى المنكر، فاللام لم يخرجه عن موضوعه، بل هي زيادة في اللفظ غير مخلة بالمعنى، بخلاف "الله الكبير" [ ص: 26 ] "وكبرت الله" ونحوه، فإنه ليس فيه من التعظيم والتفضيل والاختصاص ما في لفظة "الله أكبر". والصحيح قول الأكثرين، وأنه يتعين "الله أكبر" لخمس حجج: الشافعي:
أحدها: قوله ، واللام هنا للعهد، فهي كاللام في قوله تحريمها التكبير وليس المراد به كل طهور، بل الطهور الذي واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه لأمته، وكان فعله له تعليما وبيانا لمراد الله من كلامه. مفتاح الصلاة الطهور
وهكذا التكبير هنا: هو التكبير المعهود، الذي نقلته الأمة نقلا ضروريا، خلفا عن سلف عن نبيها صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في كل صلاة، لا يقول غيره ولا مرة واحدة. فهذا هو المراد بلا شك في قوله: «تحريمها التكبير»، وهذا حجة على من جوز "الله الأكبر"، و"الله الكبير"، فإنه وإن سمي تكبيرا، لكن ليس التكبير المعهود المراد بالحديث.
الحجة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: ولا يكون ممتثلا للأمر إلا بالتكبير. وهذا أمر مطلق يتقيد بفعله الذي لم يخل به هو، ولا أحد من خلفائه ولا أصحابه. إذا قمت إلى الصلاة فكبر
الحجة الثالثة: ما روى من حديث أبو داود رفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم يستقبل القبلة [ ص: 27 ] ويقول: الله أكبر لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه، .
الحجة الرابعة: أنه لو كانت الصلاة تنعقد بغير هذا اللفظ لتركه النبي صلى الله عليه وسلم ولو في عمره مرة واحدة، لبيان الجواز، فحيث لم ينقل أحد عنه قط أنه عدل عنه حتى فارق الدنيا، دل على أن الصلاة لا تنعقد بغيره.
الحجة الخامسة: أنه لو قام غيره مقامه لجاز أن يقوم غير كلمات الأذان مقامها، وأن يقول المؤذن: "كبرت الله"، أو "الله الكبير"، أو "الله أعظم"، ونحوه. بل تتعين لفظة "الله أكبر" في الصلاة أعظم من تعينها في الأذان; لأن كل مسلم لا بد له منها، وأما الأذان فقد يكون في المصر مؤذن واحد أو اثنان، والأمر بالتكبير في الصلاة آكد من الأمر بالتكبير في الأذان.
وأما حجة أصحاب على ترادف: "الله أكبر"، و"الله الأكبر"، فجوابها: أنهما ليسا بمترادفين، فإن الألف واللام اشتملت على زيادة في اللفظ ونقص في المعنى. الشافعي
[ ص: 28 ] وبيانه: أن "أفعل" التفضيل إذا نكر وأطلق تضمن من عموم المفضل عليه وإطلاقه ما لم يتضمنه المعرف.
فإذا قيل: "الله أكبر" كان معناه: من كل شيء. وأما إذا قيل: "الله أكبر" فإنه يتقيد معناه ويتخصص، ولا يستعمل هذا إلا في مفضل معين على مفضل عليه معين، كما إذا قيل: من أفضل، أزيد أم عمرو؟ فيقول: زيد الأفضل. هذا هو المعروف في اللغة والاستعمال. فإن أداة "من" لا يمكن أن يؤتى بها إلا مع "اللام"، وأما بدون "اللام" فيؤتى بالأداة، فإذا حذف المفضل عليه مع الأداة أفاد التعميم، وهذا لا يتأتى مع اللام.
وهذا المعنى مطلوب من القائل: "الله أكبر" بدليل ما روى من حديث الترمذي عدي بن حاتم الطويل: وهذا مطابق لقوله تعالى: [ ص: 29 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ قل أي شيء أكبر شهادة وهذا يقتضي جوابا: لا شيء أكبر شهادة من الله، فالله أكبر شهادة من كل شيء. كما أن قوله لعدي: يقتضي جواب: لا شيء أكبر من الله، فالله أكبر من كل شيء. هل تعلم شيئا أكبر من الله؟
وفي افتتاح الصلاة بهذا اللفظ - المقصود منه: استحضار هذا المعنى، وتصوره - سر عظيم يعرفه أهل الحضور، المصلون بقلوبهم وأبدانهم. فإن العبد إذا وقف بين يدي الله عز وجل، وقد علم أن لا شيء أكبر منه، وتحقق قلبه ذلك، وأشربه سره استحيى من الله، ومنعه وقاره وكبرياؤه أن يشغل قلبه بغيره، ومن لم يستحضر هذا المعنى، فهو واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطرات، والله المستعان.
فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلب هذا لما اشتغل عنه، وصرف كلية قلبه إلى غيره، كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه لم يشغل قلبه بغيره، ولم يصرفه عنه.