المسألة الخامسة: أن تكون الوصايا كلها تبرعات:
كحج التطوع، وصدقة التطوع، وغيرهما، فإنها تعتبر من الثلث باتفاق [ ص: 362 ] الأئمة، إذا لم يضق الثلث عنها، فإن ضاق الثلث عنها، وزادت عليه، فإن أجازها الورثة نفذت بالاتفاق.
وإن لم يجزها الورثة فتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن ينص الموصي على تقديم بعض التبرعات على بعض.
فإن نص على تقديم بعض الوصايا فيقدم ما نص عليه اتباعا لنصه، وهذا باتفاق الأئمة.
القسم الثاني: أن لا ينص الموصي على تقديم بعض التبرعات على بعض.
فإن ضاقت عن الثلث، ولم يجز الورثة ما زاد عنه، فقد اختلف العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: المحاصة بين الوصايا في الثلث، وأنه لا يقدم بعضها على بعض.
وهو قول المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
[ ص: 363 ] القول الثاني: البدء بما بدأ به الموصي في النطق حتى ينقضي الثلث، ويكون النقص على المتأخر.
وهو المعتمد عند الحنفية .
القول الثالث: تقديم الأفضل فالأفضل من الوصايا.
وهو قول عند الحنفية .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
أدلة القول بالمحاصة بين الوصايا في الثلث، وأنه لا يقدم بعضها على بعض ما يأتي:
الدليل الأول: أن هذه الوصايا متحدة الرتبة - وهي التبرع - فتقديم بعضها على بعض ترجيح بلا مرجح.
الدليل الثاني: القياس على قسمة التركة بين أرباب الديون بالمحاصة إذا ضاقت عن الوفاء.
دليل القول الثاني: دليل القول بالبدء بما بدأ به الموصي في النطق:
أنه هذه الوصايا عند تساويها لا يمكن الترجيح بالذات، فيرجح بالبداية ; لأن البداية دليل اهتمامه بما بدأ به; لأن الإنسان يبدأ بالأهم فالأهم عادة.
[ ص: 364 ] ونوقش: بأن قولكم: لا يمكن الترجيح بالذات مسلم.
وأما القول: بأنه يرجح بالبداية، فغير مسلم; إذ لو أراد الموصي تقديم ما بدأ به في النطق لبينه، فلما أطلق الوصية دل على أنه إنما أراد التسوية بين هذه الوصايا، وطريق ذلك المحاصة.
دليل القول الثالث: دليل القول بتقديم الأفضل فالأفضل من الوصايا: أن بعض هذه الوصايا أفضل من بعض، فتكون أولى بالتقديم.
ونوقش: بأنه لا يسلم أن الأفضل أولى بالتقديم; إذ لو أراد الموصي لبينه ، فدل على أنه أراد التسوية بين هذه الوصايا - كما سبق - فتقديم الأفضل ترجيح بلا مرجح.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة الأدلة التي استدلوا بها وسلامتها من الاعتراض مع ضعف أدلة المخالفين; لما ورد عليها من مناقشة، وأن هذا القول أقرب إلى تحقيق غرض الموصي الذي لو قصد تقديما أو تفضيلا لبينه.