المسألة الثانية: حكم لزوم الحد إذا كان واطئ الموقوفة هو الواقف:
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في لزوم الحد على الواقف إذا وطئ الأمة التي وقفها على قولين هما :
القول الأول : أنه لا حد على الواقف إذا وطئ الأمة الموقوفة .
قال به بعض المالكية، والشافعية، وهو الظاهر عند الحنابلة.
وقال خليل من المالكية : "الزنى : وطء مسلم مكلف فرج آدمي لا ملك له فيه باتفاق عمدا". فقوله: "لا ملك له فيه باتفاق": مخرج لوطء الواقف الأمة الموقوفة ; لأنه وقع الخلاف في ملكية الواقف لها.
القول الثاني : أنه يجب الحد على الواقف إذا وطئ الأمة الموقوفة . [ ص: 219 ]
وهذا هو قول الحنفية، والشافعية، وقال به بعض الحنابلة .
وبه قال "فصح أنه ليس الوطء إلا مباحا لا يلام فاعله، أو عهرا في غير فراش" . ابن حزم:
الأدلة :
دليل القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بعموم الأدلة الدالة على درء الحدود بالشبهات; وذلك لوجود شبهة الخلاف في بقاء ملك الواقف على تلك الأمة.
(275) روى من طريق الترمذي يزيد بن زياد الدمشقي، عن عن الزهري، عن عروة، رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عائشة [ ص: 220 ] "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".
[ ص: 221 ] (276) وما رواه من طريق البيهقي عن أبيه قال : بلغني، أو بلغنا أن الحسن بن صالح، رضي الله عنه قال: "إذا حضرتمونا فاسألوا في العهد جهدكم، فإني إن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة". عمر
قال "منقطع وموقوف". البيهقي:
(277) وما رواه قال : حدثنا ابن أبي شيبة هشيم، عن منصور، عن الحارث، عن إبراهيم قال : قال رضي الله عنه : "لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات" [منقطع]. عمر بن الخطاب
(278) وما رواه من طريق ابن أبي شيبة إسحاق بن أبي فروة، عن عن أبيه أن عمرو بن شعيب، معاذا، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قالوا : "إذا اشتبه عليك الحد فادرأه " [ضعيف جدا]. [ ص: 222 ] وعقبة بن عامر
(279) ما رواه قال : حدثنا ابن أبي شيبة عن وكيع، سفيان، عن عاصم، عن عن أبي وائل، عبد الله رضي الله عنه : "ادرؤوا القتل والجلد عن المسلمين ما استطعتم" [إسناده صحيح].
فهذه آثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توضح فكيف لا ندرأ الحد عن الواقف، وقد قال جمع من العلماء بأنه مالك للعين الموقوفة؟. تشوف الشرع إلى درء الحد ما أمكن،
دليل القول الثاني: (أنه يحد على الواطئ الواقف) :
عموم الأدلة الدالة على وجوب حد الزاني، كقوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، وحديث رضي الله عنه ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : عبادة بن الصامت ولم يعتبروا شبهة الخلاف في ملكه لها، حيث إنهم لم ينظروا للقول بملكه لضعفه . [ ص: 223 ] "البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم".
ونوقش هذا الدليل: بأن تلك الأدلة إنما أوجبت الحد إذا ثبت الزنى ثبوتا قطعيا ، ومهما وجدت الشبهة لم يثبت الزنى قطعيا، يدل على ذلك ورود الأحاديث والآثار في درء الحد عند وجود الشبهة.
أما عدم اعتبارهم شبهة الخلاف في ملك الواقف لها; لضعف القول به ، فقد سبق أن القول بملكية الواقف للعين الموقوفة، قال به المالكية، وبعض الحنفية، وهو رواية عن أحمد.
ومهما كان القول ضعيفا، فقد أوجد شبهة ينبغي درء الحد بها ما لم يصل ذلك القول إلى حد الشذوذ.
وأجيب عن هذه المناقشة : بأن هذا مسلم ما لم يكن الواقف يعلم أنها خرجت عن ملكه، فإن كان يعلم ذلك ويعتقده، فلا شبهة له; لكونه أصبح أجنبيا في اعتقاده .
الترجيح :
الراجح - والله أعلم - القول الأول، وأن الواقف لا يحد بوطئه الأمة الموقوفة ; درءا للحد بشبهة الخلاف في ملكه لها، لكن إن كان يعتقد خروجها عن ملكه بالوقف، فلا شبهة له; لكونه وطئ، وهو يعتقد أنه أجنبي فيحد، وبهذا تجتمع الأدلة .