ولا خلاف بين المسلمين أن التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته . [ ص: 351 ] المشرك إذا مات على شركه ، لم يكن من أهل المغفرة
وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين ، فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .
قال : قد أبانت هذه الآية : أن ابن جرير - عز وجل - إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ، ما لم تكن كبيرته شركا بالله - عز وجل - . كل صاحب كبيرة في مشيئة الله
وظاهره : أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ، ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة .
وقد تقدم قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم .
وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته .
أخرج ، ابن أبي حاتم ، عن والطبراني ، قال: أبي أيوب الأنصاري
قال : «وما دينه » .
قال : يصلي ، ويوحد الله .
قال : «استوهب منه دينه ، فإن أبى ، فابتعه منه » .
فطلب الرجل منه ذلك، فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره . وقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . الآية . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام .
وأخرج ابن الضريس ، ، وأبو يعلى ، وابن المنذر بسند صحيح ، وابن عدي قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: ابن عمر إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وقال : «إني ادخرت دعوتي ، وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » . [ ص: 352 ]
فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا . عن
وأخرج ، ابن جرير عن وابن المنذر ، قال: ابن عمر لما نزلت : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم [الزمر : 53] الآية .
قام رجل ، فقال : والشرك يا رسول الله ؟ فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وأخرج عن ابن المنذر أبي مجلز : أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وأخرج في «ناسخه » ، أبو داود ، عن وابن أبي حاتم ، قال في هذه الآية : ابن عباس
إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجى أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم عن المغفرة .
وأخرج ، وحسنه ، عن الترمذي -عليه السلام - ، قال: أحب آية إلي في القرآن علي إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية . انتهى .
وأما الآية الثانية : فقال تحت تفسيرها : قد تقدم تفسير هذه الآية ، وتكريرها بلفظها للتأكيد .
وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق .
وقيل : إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق .
وهو ما رواه ، الثعلبي والقرطبي في «تفسيريهما » عن الضحاك : أن شيخا من الأعراب جاء . . . إلخ . انتهى .
وقال الشيخ «أحمد » المدعو بـ «ملاجيون » - رحمه الله تعالى - في كتابه التفسيرات الأحمدية ما نصه : [ ص: 353 ]
هذه الآية المذكورة في القرآن في هذه السورة مرتين ، وهذه أولاهما .
وقد قال في الثانية : ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا .
وقيل في نزول الآية الثانية : إنه جاء شيخ ، وذكر قصته .
قال : ولم ينقل في نزول الآية الأولى شيء ، وهي مع أختها في باب من لم يتب .
والمفهوم من كل منهما : أن . الشرك بدون التوبة غير مغفور ألبتة
وما دون ذلك من الذنوب موقوف على مشيئة الله تعالى ؛ إن شاء عذب عليها ، وإن شاء عفا عنها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة .
وأما التائب ، فمعفو من الله تعالى ألبتة فضلا منه ، لا وجوبا عليه ، سواء كان مشركا ، أو غيره ، من الصغائر والكبائر ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة .
وقال المعتزلة : إن الرجل إذا اجتنب الكبائر ، كان صغائره مغفورة ألبتة ، متمسكا بقوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [النساء : 31] ؛ إذ السيئات في الصغائر للمقابلة .
ونحن نحمل الكبائر على الكفر ؛ إذ هو الكامل منها ، وجمعه باعتبار أنواع الكفر ، أو أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما نص به في شرح العقائد .
والسيئات تطلق على الكبائر جميعا ، فيصير المعنى : إن تجتنبوا الكفر ، نكفر عنكم ذنوبكم .
وحينئذ نحمله على الفضل والكرامة ، لا على الوجوب ؛ بدليل هذه الآية ؛ لأن قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أعم من الكبيرة الصغيرة .
فيجوز أن يغفر الكبيرة بالفضل ، وأن يعذب على الصغيرة بالعدل ، فهذه الآية حجة عليهم .
ثم إنهم -أي : المعتزلة - قالوا : معنى الآية : إن الله لا يغفر أن يشرك به لمن يشاء ؛ أي : لمن لم يتب ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ؛ أي : لمن تاب ، على ما نص به في «الكشاف » ، وغيره . [ ص: 354 ]
وهو باطل بالبداهة ، والتعقل ؛ لأن الكفر لما كان مغفورا عنه بالتوبة ؛ لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال : 38] .
فيما دونه من الذنوب أولى أن يغفر بالتوبة .
والآية إنما سيقت لبيان التفرقة بين الكفر وسائر الذنوب ، وهو فيما ذكرنا ؛ لا فيما زعموا كما نص به في «المدارك » .
فإذا كان المقصود التفرقة بينهما ، كانت الآية حجة أيضا على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك ، وأن صاحبه خالد في النار كما نص في «البيضاوي » .
ولا يقال : إن قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [الزمر : 53] يدل على أن الشرك أيضا مغفور .
لأنا نقول : قد صرح الإمام الزاهد أن المراد من قوله : أسرفوا على أنفسهم إن كان الإسراف بالشرك ، والذنوب جميعا ، كان معنى إن الله يغفر الذنوب جميعا : يغفرها إذا آمنتم .
وإن كان الإسراف بالذنوب فقط ، فهو المطلوب .
ويكون إضافة العباد إلى الله على الأول إضافة التمليك ، وعلى الثاني : إضافة التكريم ، والتقرب .
وذلك لأن الآيات الواردة في عدم مغفرة الشرك قطعية ؛ كالآيتين المذكورتين ، وكقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [المائدة : 72] ، وأمثاله .
والآية المعارضة المذكورة تحتمل المعاني ، فلا تستطيع أن تعارضها ، بل يجب حملها على معنى يطابق تلك الآيات ، وذلك فيما ذكرنا ، وكلام غيره أيضا يدل على أن المراد غير الشرك ، ولكن يشكل بأنه لم يقيد المغفرة هاهنا بالتوبة كما قيل في قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ولكن لا بأس به ؛ لأنه [ ص: 355 ] لا يدل على وجوب المغفرة ألبتة لكل واحد من غير توبة ، ومن غير عقوبة حتى ينافي الوعيد بالتعذيب .
ويعني من التوبة : الإخلاص بالعمل ، بل على أن الذنوب كلها -سوى الشرك - تحت مشيئته ، يمكن أن يعفو عنها عفوا ، ولو بعد بعد .
هكذا قال القاضي الأجل .
فكأنه يؤول حينئذ إلى معنى قوله : لمن يشاء .
وصاحب «الكشاف » قيده بالتوبة رعاية لمذهبه : أن الكبائر لا تغفر بدون التوبة ، ولكنه خلاف الظاهر لا حاجة إليه .
وقد ذكروا في شأن نزوله أوجها متعددة لا نوردها ؛ لطول الكلام ، وكثرة الملال . انتهى .