الوجه الأول : أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم ، فمن أين يناسب حاله قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها ، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه .
والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب ، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف .
نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعا لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ ، فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم حالة الموت المحوج إلى الوصية وأن ، كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده ، وهما محبوباه من الدنيا فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعا فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله : يوصيكم الله في أولادكم فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظرا لهم في حياتهم وموتهم ، فيقول : إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك استبشارا وسرورا أو يخطر له من قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين تفضيل الذكر بكونه رجلا على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
وأن ، من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقا فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا .
فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان : .
أحدهما : حالة غالبة مستغرقة قاهرة .
والآخر : تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها .
وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم .
رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن ذكرت إلفا ودهرا صالحا
وبكت حزنا فهاجت حزني فبكائي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني ولقد أشكو فما أفهمها
ولقد تشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضا بالجوى تعرفني
الوجه الثاني : أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب وكلما ، سمع أولا عظم أثره في القلوب وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره .
ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك .
ولو أبدل ببيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معربا عن عين ذلك المعنى .
ولكن كون النظم واللفظ غريبا بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحدا .
وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآنا غريبا في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر ، وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال : كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وأنه ، كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة ، ثم يرددها ويبكي ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريبا جديدا ، ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة .
ولذا هم رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف ، وقال : قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي : يأنسوا به. عمر
ومن قدم حاجا فرأى البيت أولا بكى وزعق ، وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره ، وقد يقيم بمكة شهرا ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر فإذا المغني يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة .
الوجه الثالث : أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيرا في النفس ، فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون ، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطرب قلب المستمع وبطل وجده وسماعه ، ونفر طبعه لعدم المناسبة .
وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش ، فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر .
الوجه الرابع أن : التي تسمى الطرق والدستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها . الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان
وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضيه التلاوة حرام أو مكروه .
وإذا سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان ، وهو سبب مستقل بالتأثير ، وإن لم يكن مفهوما كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم . رتل القرآن كما أنزل
الوجه الخامس أن : الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ، ولكل واحد منها حظ في التأثير وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن؛ لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب ، والقرآن جد كله عند كافة الخلق فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة ، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو بل ينبغي أن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن ولا في حال الجنابة . يوقر القرآن
ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة ، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في العرس فقال : . أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال
أو بلفظ هذا معناه وذلك جائز مع الشعر دون القرآن .
ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار فسمع إحداهن تقول : وفينا نبي يعلم ما في غد. .
على وجه الغناء فقال صلى الله عليه وسلم : دعي هذا وقولي ما كنت تقولين .
وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو ; لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو .
فإذا يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركا للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء .