الأدب الثالث : أن يكون مصغيا إلى ما يقول القائل حاضر القلب قليل الالتفات إلى الجوانب متحرزا عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد .
مشتغلا بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره متحفظا عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم .
بل يكون ساكن الظاهر هادئ الأطراف ، متحفظا عن التنحنح والتثاؤب ويجلس مطرقا رأسه كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه متماسكا عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ساكتا عن النطق في أثناء القول بكل ، ما عنه بد ، فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم .
ومهما رجع إليه الاختيار فليعد إلى هدوئه وسكونه .
ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال انقطع وجده على القرب ولا أن يتواجد خوفا من أن يقال : هو قاسي القلب عديم الصفاء والرقة .
حكي أن شابا كان يصحب فكان ، إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما إن : فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان بعد ذلك يضبط نفسه حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق فحكي أنه اختنق يوما لشدة ضبطه لنفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه . الجنيد
وروي أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه أو قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل له : مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك .
قال أبو القاسم النصراباذي لأبي عمرو بن عبيد أنا أقول إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خيرا لهم من أن يغتابوا فقال أبو عمرو : الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالا ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك .
فإن قلت الأفضل : هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو الذي يظهر عليه فاعلم أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من الوجد فهو نقصان وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن لكن لا يظهر ، لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال وتارة يكون لكون حال الوجد ملازما ومصاحبا في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال .
فإن فمن هو في وجد دائم ثم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود فهذا لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده رضي الله عنه كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا ، معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال ، فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديدا في حقنا طارئا علينا حتى تتأثر به . الصديق
فإذا قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته ، وإما لضعف ما يقابله ، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك ، فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجدا من الساكن باضطرابه بل رب ساكن أتم وجدا من المضطرب .
فقد كان يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال : الجنيد وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت ، والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة .
وقال أبو الحسن محمد بن أحمد ، وكان بالبصرة صحبت سهل بن عبد الله ستين سنة فما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر أو القرآن ، فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه فاليوم لا يؤخذ منكم فدية الآية فرأيته قد ارتعد وكاد يسقط فلما عاد إلى حاله سألته عن ذلك فقال : نعم يا حبيبي قد ضعفنا .
وكذلك سمع مرة قوله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن فاضطرب فسأله ابن سالم وكان من أصحابه فقال : قد ضعفت ، فقيل له : فإن كان هذا من ضعف فما قوة الحال ? فقال : أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يلتقيه بقوة حاله فلا تغيره الواردات ، وإن كانت قوية .
. وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود
كما حكي عن سهل رحمه الله تعالى أنه قال : حالتي قبل الصلاة وبعدها واحدة لأنه كان مراعيا للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال .
فكذلك يكون قبل السماع وبعده إذ يكون وجده دائما وعطشه متصلا وشربه مستمرا بحيث لا يؤثر السماع في زيادته .
كما روي أن ممشادا الدينوري أشرف على جماعة فيهم قوال فسكنوا فقال ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي .