فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها ، فكيف يحتاج إلى إذنهم ، وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله ، فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت ، فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه ، وقال له : انظر ما تصنع ، من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من البعد حتى إذا صار عنده ، حلت بينه وبينه وقد قال الله تعالى: سواء العاكف فيه والباد ، من جعل لك هذا ؟ فنظر في وجهه ، وكان يعرفه ؛ لأنه من مواليهم ، فقال : عبد الله بن مرزوق؟ قال : نعم . فأخذ فجيء به إلى بغداد ، فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة فجعله في إصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرسا عضوضا سيئ الخلق؛ ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس قال : ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه ، وأخذ المهدي المفتاح عنده ، فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل ، فأوذن به المهدي فقال له : من أخرجك ؟ فقال : الذي حبسني : فضج المهدي وصاح ، وقال : ما تخاف أن أقتلك فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك ، وهو يقول : لو كنت تملك حياة أو موتا فما زال محبوسا حتى مات المهدي ، ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة ، قال : وكان قد جعل على نفسه نذرا إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها وروي عن حبان بن عبد الله قال : تنزه هارون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هاشم ، وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هارون : قد كانت لك جارية تغني فتحسن ، فجئنا بها ، قال : فجاءت ، فغنت ، فلم يحمد غناءها ، فقال لها : ما شأنك ؟ فقالت : ليس هذا عودي . فقال للخادم : جئنا بعودها . قال : فجاء بالعود ، فوافق شيخا يلقط النوى فقال الطريق يا شيخ فرفع الشيخ رأسه فرأى العود ، فأخذه من الخادم فضرب به الأرض فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال: احتفظ بهذا ؛ فإنه طلبة أمير المؤمنين فقال له صاحب الربع : ليس ببغداد أعبد من هذا ، فكيف يكون طلبة أمير المؤمنين ؟ فقال له اسمع : ما أقول لك ثم دخل ، على هارون فقال : إني مررت على شيخ يلقط النوى ، فقلت له : الطريق ، فرفع رأسه ، فرأى العود فأخذه ، فضرب به الأرض فكسره ، فاستشاط هارون وغضب واحمرت عيناه ، فقال له سليمان بن أبي جعفر : ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين ؟ ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة ، فقال : لا ، ولكن نبعث إليه ونناظره أولا فجاء الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين . فقال : نعم . قال : اركب قال: لا ، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر ، فقيل لهارون : قد جاء الشيخ . فقال للندماء : أي شيء ترون نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ ، أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر؟ فقالوا له : نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح . فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ، ثم أمر بالشيخ، فأدخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى ، فقال له الخادم : أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين فقال : من هذا عشائي الليلة . قال : نحن نعشيك . قال : لا حاجة لي في عشائكم . فقال هارون للخادم : أي شيء تريد منه؟ قال : في كمه نوى، قلت له : اطرحه ، وادخل على أمير المؤمنين . فقال : دعه لا يطرحه . قال : فدخل وسلم ، وجلس، فقال له هارون : يا شيخ ، ما حملك على ما صنعت ؟ قال : وأي شيء صنعت ؟ وجعل هارون يستحي أن يقول : كسرت عودي فلما أكثر عليه قال : إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأنا رأيت منكرا فغيرته فقال : فغيره . فوالله ما قال إلا هذا فلما خرج أعطى الخليفة رجلا بدرة وقال : اتبع الشيخ، فإن رأيته يقول : قلت لأمير المؤمنين وقال لي فلا تعطه شيئا، وإن رأيته لا يكلم أحدا ، فأعطه البدرة . فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت ، فجعل يعالجها ولم يكلم أحدا ، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذ : هذه البدرة فقال : قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها . ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول :
أرى الدنيا لمن هي في يديه هموما كلما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر
وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه
وعن سفيان الثوري رحمه الله قال : حج المهدي سنة ست وستين ومائة .
فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالا بالسياط فوقفت فقلت : يا حسن الوجه، حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي . قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك
وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا . فقال لرجل : من هذا؟ قال : . فقال يا سفيان : لو كان المنصور ما احتملك على هذا فقال : لو أخبرك المنصور بما لقى لقصرت عما أنت فيه. قال : فقيل له : إنه قال لك : يا حسن الوجه، ولم يقل لك يا أمير المؤمنين . فقال : اطلبوه . فطلب سفيان الثوري سفيان ، فاختفى .
.
وقد روي عن أنه بلغه أن رجلا محتسبا يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ولم يكن مأمورا من عنده بذلك ، فأمر بأن يدل عليه ، فلما صار بين يديه قال له إنني : بلغني أنك رأيت نفسك أهلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك . وكان المأمون جالسا على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه ، فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به ، فقال له المحتسب : ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى، ثم قل ما شئت فلم يفهم المأمون مراده فقال : ماذا تقول ؟ حتى أعاده ثلاثا ، فلم يفهم فقال : إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع . فنظر المأمون تحت قدمه ، فرأى الكتاب ، فأخذه وقبله وخجل ثم عاد وقال : لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا المأمون أهل البيت ، ونحن الذين قال الله تعالى فيهم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ؟ فقال صدقت يا أمير المؤمنين ، أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه ولا ، ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف الآية ، وقد مكنت في الأرض ، وهذا كتاب الله وسنة رسوله ، فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما ، وإن استكبرت عنهما ، ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فقل الآن ما شئت . فأعجب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان ، يشد بعضه بعضا بكلامه وسر به ، وقال : مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا فاستمر الرجل على ذلك . . المأمون
ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن .