، ونحن إنما نستثني عنه بطريق التخصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه إما بالإجماع أو بقياس ظاهر، وهو أن الأمر ليس يراد لعينه ، بل للمأمور ، فإذا علم اليأس عنه فلا فائدة فيه ، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقنا ولا معلوما بغالب الظن، ولكن كان مشكوكا فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ، ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه، أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب ، فإن ذلك ممكن في كل حسبة ، وإن شك فيه من غير رجحان ، فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال : الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه ، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعا ، وهذا هو الأظهر ، ويحتمل أن يقال : إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه ، أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح ؛ نظرا إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف ، فإن قيل : فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة ، فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريبا حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل ، حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه ، فعلى ماذا التعويل قلنا : التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج ؛ فإن الجبن مرض ، وهو ضعف في القلب ، سببه قصور في القوة وتفريط والتهور إفراط في القوة ، وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة وكل واحد من الجبن والتهور يصدر تارة عن نقصان العقل، وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط فإن من اعتدل مزاجه في وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال والجراءة ، فقد لا يتفطن لمدارك الشر ، فيكون سبب جراءته جهله ، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر ، فيكون سبب جبنه جهله ، وقد يكون عالما بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه ، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع ، فلا التفات إلى الطرفين وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته ، وعلته جهل أو ضعف ، ويزول الجهل بالتجربة ، ويزول الضعف بممارسة الفعل المخوف منه تكلفا حتى يصير معتادا؛ إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلا قد يجبن عنه طبعه لضعفه ، فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف فإن صار ذلك ضروريا غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب ، فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله ، فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات ، ولذلك قد نقول على رأي : لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر ويجب على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في صفة الجبن فإن قيل : فالمكروه المتوقع ما حده ؟ فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة ، وقد يكره طول لسان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى، وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان ، أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه ، فما حد المكروه الذي يسقط الوجوب به ؟ قلنا : هذا أيضا فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجاريه كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه ، فنقول : المكروه نقيض المطلوب، ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: إما في النفس، فالعلم وأما في البدن فالصحة والسلامة وأما في المال فالثروة وأما في قلوب الناس فقيام الجاه ، فإذا المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه ، ومعنى الجاه ملك قلوب الناس كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لأن قلوب الناس وسيلة إلى الأعراض ، كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض وسيأتي تحقيق معنى الجاه ، وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه ، والمختصين به ويكره في هذه الأربعة أمران ، أحدهما زوال ما هو حاصل موجود ، والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود ، أعني اندفاع ما يتوقع وجوده فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله، والممكن حصوله كأنه حاصل، وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله ، فرجع المكروه إلى قسمين ، أحدهما خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصا في ترك الأمر بالمعروف أصلا ، ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة ، أما العلم فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفا من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه وأما الصحة فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلا وهو لابس حريرا خوفا من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنتظرة وأما المال فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه ، وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل، ويترك مواساته ، وأما الجاه فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاها في المستقبل ؛ خيفة من أن لا يحصل له الجاه ، أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية ، وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضررا مجاز ، وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ، ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر، كما إذا كان محتاجا إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضي إلى الموت وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة ، وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلا بمهمات دينه ولم يجد إلا معلما واحدا ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه ؛ لكون العالم مطيعا له أو مستمعا لقوله ، فإذا الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور، وجوب الحسبة ، ولا ، يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر، وبشدة الحاجة إلى العلم ؛ لتعلقه بمهمات الدين وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال ، وليس هو قوي النفس في التوكل، ولا منفق عليه سوى شخص واحد ، ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعا ، فهذا أيضا إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلا إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان ، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر ، ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ، ويدوم بسببه أذى الشرير، فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المحتسب حتى يستفتي فيها قلبه ويزن أحد المحذورين بالآخر، ويرجح بنظر الدين، لا بموجب الهوى والطبع فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مداهنة . والسكوت على المنكر محذور
وهذا أمر باطن، لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ، ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضرا عند الله ، ولو في فلتة خاطر ، أو فلتة ناظر ، من غير ظلم وجور ، فما الله بظلام للعبيد .