وأما القسم الثاني، وهو فوات الحاصل ، فهو مكروه ، ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم ؛ فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره ، وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال وهذا أحد أسباب فإنه يدوم في الدنيا ، ويدوم ثوابه في الآخرة ؛ فلا انقطاع له أبد الآباد وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب ، فكل شرف العلم ؛ وإن كان يستحب له ذلك ، كما سبق وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع ، والقتل أظهر ، وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه ، فهذا أيضا يسقط عنه الوجوب ، ويبقى الاستحباب؛ إذ لا بأس بأن يفدي دينه بدنياه ولكل واحد من الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب ، وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد ، وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضربا غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ، ويدار به في البلد ، أو يسود وجهه ويطاف به وكل ذلك من غير ضرب مؤلم للبدن، وهو فادح في الجاه ومؤلم للقلب ، وهذا له درجات ، فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة ، كالطواف به في البلد حاسرا حافيا فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع ، وهذا مؤلم للقلب ألما يزيد على ألم ضربات متعددة ، وعلى فوات دريهمات قليلة ، فهذه درجة الثانية، ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة ، فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل وكذلك الركوب للخيول ، فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها ، أو كلف المشي راجلا ، وعادته الركوب ، فهذا من جملة المزايا وليست المواظبة على حفظها محمودة ، وحفظ المروءة محمود ؛ فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر ، وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان، إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان وأما في غيبته بأنواع الغيبة، فهذا لا يسقط الوجوب؛ إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة ولو تركت الحسبة بلوم لائم ، أو باغتياب فاسق ، أو شتمه وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلا؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة ، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ، ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة ، فتحرم هذه الحسبة ؛ لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ، ويقتصر على غيبته فلا تجب عليه الحسبة لأن غيبته أيضا معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدي عرض المذكور بعرض نفسه ، على سبيل الإيثار ، وقد دلت العمومات على تأكد من علم أنه يضرب ضربا مؤلما يتأذى به في الحسبة ، لم تلزمه الحسبة ، وعظم الخطر في السكوت عنها فلا يقابله إلا ما عظم في الدين خطره ، والمال والنفس والمروءة قد ظهر في الشرع خطرها ، فأما مزايا الجاه والحشمة ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق ، فكل ذلك لا خطر له وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه ، فهو في حقه دونه ؛ لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره ، ومن وجه الدين هو فوقه ؛ لأن له أن يسامح في حقوق نفسه ، وليس له المسامحة في حق غيره ؛ فإذا ينبغي أن يمتنع ؛ فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية ، كالضرب والنهب ، فليس له هذه الحسبة ؛ لأنه دفع منكر يفضي إلى منكر وإن كان يفوت لا بطريق المعصية، فهو إيذاء للمسلم أيضا، وليس له ذلك إلا برضاهم ، فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه ، وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء ، فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ، ولكنه يقصد أقاربه انتقاما منه بواسطته فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه ، فليتركها ؛ فإن إيذاء المسلمين محذور ، كما أن السكوت على المنكر محذور نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ، ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب ، فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها، ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب ، وقدحه في العرض . وجوب الحسبة ،