وعن ابن المهاجر قال : قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجا ، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به ، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه، وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول : اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع .
فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج ، فجلس ناحية من المسجد ، وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له : أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن ، وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور : ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم ، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني فقال : يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل ، فقال له أنت آمن على نفسك فقال : الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت .
فقال ويحك : وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي قال : وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم ، وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمة، إن نسيت لم يذكروك ، وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ، أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا : هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ، ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية ، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك، وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت ، للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته، وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ، ويعتل عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك ، فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام ، وأهله على هذا ، ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي يا أهل الإسلام فيبتدرونه ما لك ما لك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي ، فقال له وزراؤه ما لك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال : أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ، ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب ، فلا أسمع صوته ثم قال : أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم ، فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوما فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه ، وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك ، فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة ، إن قلت أجمعها لولدي، فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له ، على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ، ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يشاء ، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبرا فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة ، وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع ، وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد .
وإن قلت: أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ، يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل ، قال : لا ، قال : فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله ، وما أنت عليه من ملك الدنيا ، وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم ، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك ، وأضمرته جوارحك، فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ، ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه مما شححت عليه من ملك الدنيا فبكى المنصور بكاء شديدا حتى نحب وارتفع صوته ، ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئا ثم قال كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائنا ؟ قال : يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين ، قال ومن : هم ؟ قال : العلماء ، قال : قد فروا مني ، قال : هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن افتح الأبواب ، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم ، وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك، فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك .
فقال المنصور : اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل .
وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة ، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحرسي : عليك بالرجل إن لم تأتني به لأضربن عنقك واغتاظ عليه غيظا شديدا ، فخرج الحرسي يطلب الرجل ، فبينا هو يطوف فإذا هو بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ، ثم قال : يا ذا الرجل أما تتقي الله ؟ قال : بلى ، قال : أما تعرفه ؟ قال : بلى ، قال : فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك ، قال : ليس لي إلى ذلك من سبيل، قال : يقتلني ، قال : لا ، قال : كيف ؟ قال : تحسن تقرأ ؟ قال : لا فأخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا فيه شيء ، فقال : خذه فاجعله في جيبك ، فإن فيه قال : وما دعاء الفرج ؟ قال : لا يرزقه إلا الشهداء ، قلت : رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله ؟ قال : من دعا به مساء وصباحا هدمت ذنوبه ودام سروره ، ومحيت خطاياه ، واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأعطي ، أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقا ولا يموت إلا شهيدا تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء ، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت ، وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، وانقاد كل شيء لعظمتك ، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك ، اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا . دعاء الفرج ،
اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي، وسترك على قبيح عملي أطمعني ، أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه ، أدعوك آمنا ، وأسألك مستأنسا ، وإنك المحسن إلي وأنا ، المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك ، تتودد إلي بنعمك ، وأتبغض إليك بالمعاصي ، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك ، فعد بفضلك وإحسانك علي إنك أنت التواب الرحيم .
قال فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين ، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ، ثم قال: ويلك وتحسن السحر ، فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ ، فقال : هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي، وقال: قد : نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف درهم، ثم قال : أتعرفه ؟ قلت : لا ، قال : ذلك الخضر عليه السلام .