بيان شواهد الشرع على صحة لا من . طريق أهل التصوف في اكتساب المعرفة
التعلم ، ولا من الطريق المعتاد .
اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام ، والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفا بصحة الطريق ، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جدا ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات .
أما الشواهد فقوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال ، - صلى الله عليه وسلم - : " فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريق الكشف والإلهام من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ، ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار .
وقال الله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا من الإشكالات والشبه ويرزقه من حيث لا يحتسب يعلمه علما من غير تعلم ويفطنه من غير تجربة وقال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا قيل : نورا يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم أعطني نورا وزدني نورا ، واجعل لي في قلبي نورا ، وفي قبري نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ، حتى قال: في : شعري وفي بشري وفي لحمي ودمي وعظامي، وسئل صلى الله عليه وسلم - عن أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ما هذا الشرح؟ قال: هو التوسعة أن النور إذا قذف في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: قول الله تعالى اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .
وقال رضي الله عنه: ما عندنا شيء أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلينا إلا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه وليس هذا بالتعلم، وقيل في علي يؤتي الحكمة من يشاء إنه الفهم في كتاب الله تعالى، وقال تعالى : تفسير قوله تعالى: ففهمناها سليمان خص ما انكشف باسم الفهم وكان أبو الدرداء يقول : المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق ، والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم وقال بعض السلف : ظن المؤمن كهانة .
وقال صلى الله عليه وسلم : " وإليه يشير قوله: تعالى : اتقوا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله " إن في ذلك لآيات للمتوسمين ، وقوله تعالى قد بينا الآيات لقوم يوقنون ، وروى الحسن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: . العلم علمان ، فعلم باطن في القلب، فذلك هو العلم النافع"
وسئل بعض العلماء عن : ما هو ? فقال : هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكا ولا بشرا وقد قال صلى الله عليه وسلم العلم الباطن إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم. " .
وقرأ رضي الله عنهما : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعني: الصديقين والمحدث هو الملهم ، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسوسات الخارجة . ابن عباس
والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف وذلك علم من غير تعلم وقال الله تعالى وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون خصصها بهم وقال تعالى هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين وكان أبو يزيد وغيره يقول ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلا ، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء بلا حفظ ولا درس وهذا هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى : وعلمناه من لدنا علما مع أن كل علم من لدنه ، ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر .
وأما مشاهدة ذلك بالتجارب ، فذلك أيضا خارج عن الحصر ، وظهر ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم وقال رضي الله عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنها عند موته : إنما هما أخواك وأختاك ، وكانت زوجته حاملا فولدت بنتا فكان ، قد عرف قبل الولادة أنها بنت وقال لعائشة رضي الله عنه في أثناء خطبته : يا سارية ، الجبل الجبل إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة وعن عمر رضي الله عنه قال : دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزرا وتأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه لما دخلت : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه ، أما علمت أن زنا العينين النظر لتتوبن أو لأعزرنك ، فقلت : أوحي بعد النبي ؟! فقال : لا ، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة وعن عثمان أبي سعيد الخراز قال : دخلت المسجد الحرام ، فرأيت فقيرا عليه خرقتان فقلت في نفسي : هذا وأشباهه كل على الناس فناداني وقال : الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، فاستغفرت الله في سري فناداني وقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ثم غاب عني ولم أره .
وقال زكريا بن داود : دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل الهاشمي وهو عليل وكان ذا عيال ، ولم يعرف له سبب يعيش به قال : فلما قمت قلت في نفسي : من أين يأكل هذا الرجل قال فصاح بي : يا أبا العباس ، رد هذه الهمة الدنية فإن لله تعالى ألطافا خفية ، وقال أحمد النقيب : دخلت على الشبلي فقال : مفتونا يا أحمد ، فقلت : ما الخبر ? قال : كنت جالسا فجرى بخاطري أنك بخيل ، فقلت : ما أنا بخيل فعاد مني ، خاطري وقال : بل أنت بخيل ، فقلت : ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني ، قال : فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون دينارا ، فقال : اجعلها في مصالحك قال وقمت : فأخذتها وخرجت وإذا ، بفقير مكفوف بين يدي مزين يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير ، فقال : أعطها المزين ، فقلت : إن جملتها كذا وكذا قال أوليس قد : قلنا لك إنك : بخيل ، قال : فناولتها المزين فقال المزين قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجرا ، قال : فرميت بها في دجلة وقلت : ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل وقال حمزة بن عبد الله العلوي دخلت على أبي الخير التيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاما ، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقا فيه طعام وقال : يا فتى ، كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك وكان أبو الخير التيناني هذا مشهورا بالكرامات وقال إبراهيم الرقي : قصدته مسلما عليه ، فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستويا فقلت في نفسي : ضاعت سفرتي ، فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير ، وقلت : قصدني سبع فخرج وصاح به وقال : ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني فتنحى الأسد فتطهرت ، فلما رجعت قال لي : اشتغلتم بتقويم الظاهر ، فخفتم الأسد ، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد .
وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه ومن سماع صوت الهاتف ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحد ما لم يشاهد ذلك من نفسه ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحده أمران : أحدهما عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم ، فلا يستحيل أيضا في اليقظة ، فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات ، فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه والثاني إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره ؛ إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق وهذا لا يسمى نبيا ، بل يسمى وليا فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان : باب إلى خارج وهو الحواس ، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي فإذا أقربهما جميعا لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيلا إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب ، وأما السبب في انكشاف الأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير ، وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة ، فذلك أيضا من أسرار عجائب القلب ، ولا يليق ذلك إلا بعلم المكاشفة ، فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها فقد قال بعض المكاشفين : ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئا من ذكري الخفي عن مشاهدتي من التوحيد ، وقال : ما نكتب لك عملا ، ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله عز وجل ، فقلت : ألستما تكتبان الفرائض ? قالا بلى قلت : فيكفيكما ذلك وهذه إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب ، وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة وقال بعض العارفين : سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين ، فالتفت إلى شماله فقال : ما تقول رحمك الله ? ثم التفت إلى يمينه فقال : ما تقول رحمك الله ? ثم أطرق إلى صدره وقال : ما تقول رحمك الله ? ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عن التفاته فقال : لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد فسألت صاحب الشمال فقال : لا أدري ، فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال : لا أدري ، فنظرت إلى قلبي ، وسألته فحدثني بما أجبتك ، فإذا هو أعلم منهما وكأن هذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم -: " تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت إن في أمتي محدثين ، وإن عمر منهم .
وفي " الأثر إن الله تعالى يقول : أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه ، وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه : القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقة ، فأي باب فتح له عمل فيه ، فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأ الأعلى ، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا ولذلك كتب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة وقال بعض العلماء يد الله على أفواه الحكماء ، لا ينطقون إلا بما هيأ الله لهم من الحق وقال آخر لو شئت لقلت : إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعض سره . عمر