بيان ما يؤاخذ به العبد من وساوس القلوب وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به .
اعلم أن هذا أمر غامض وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه قال وقال عفي عن أمتي ما : حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول للحفظة -: " أبو هريرة وقد خرجه ." إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا البخاري في الصحيحين وهو دليل على ومسلم وفي لفظ آخر العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة وفي لفظ آخر وإذا تحدث بأن يعمل سيئة ، فأنا أغفرها له ما لم يعملها وكل ذلك يدل على العفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى ، ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وقوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح ، فنقول : أول ما يرد على القلب الخاطر كما لو خطر له مثلا صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها .
والثاني : هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة التي في الطبع ، وهذا يتولد من الخاطر الأول ، ونسميه ميل الطبع ، ويسمى الأول حديث النفس .
والثالث : حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل . ويسمى هذا اعتقادا وهو يتبع الخاطر والميل .
الرابع : تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه ، وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصدا ، وهذا الهم قد يكون له مبدأ ضعيف ، ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيترك العمل ، وربما يغفل بعارض ، فلا يعمل به ولا يلتفت إليه ، وربما يعوقه عائق فيتعذر عليه العمل .
فههنا أربع ، أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة الخاطر ، وهو حديث النفس ، ثم الميل ، ثم الاعتقاد ، ثم الهم .
فنقول : أما الخاطر فلا يؤاخذ به ؛ لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلك الميل وهيجان الشهوة ؛ لأنهما لا يدخلان .
أيضا تحت الاختيار ، وهما المرادان بقوله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عفي عن أمتي -: ما حدثت به نفوسها ، فأما الهم والعزم فلا يسمى حديث النفس ، بل حديث النفس كما روي عن فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة قال : مهلا ، إن من سنتي النكاح ، قال : نفسي تحدثني أن أجب نفسي قال : مهلا خصاء أمتي دءوب الصيام قال : نفسي تحدثني أن أترهب قال : مهلا رهبانية أمتي الجهاد والحج ، قال : نفسي تحدثني أن أترك اللحم قال : مهلا فإني أحبه ولو أصبته لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه، فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس ، ولذلك شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه عزم ، وهم بالفعل وأما الثالث وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل ، فهذا تردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا ، فالأحوال تختلف فيه ، فالاختياري منه يؤاخذ به ، والاضطراري لا يؤاخذ به . عثمان بن مظعون
وأما الرابع: وهو الهم بالفعل فإنه مؤاخذ به إلا أنه لم يفعل نظر: فإن تركه خوفا من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة ، لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة ، والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى ، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة ، فجده في مخالفة الطبع هو العمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع ، فكتبت له حسنة؛ لأنه رجح جهده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل ، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه بعذر، لا خوفا من الله تعالى كتبت عليه سيئة ، فإن همه فعل من القلب اختياري، والدليل على هذا التفصيل ما ورد في الصحيح مفصلا في لفظ الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: . قالت الملائكة عليهم السلام: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة من جرائي وحيث قال فإن لم يعملها أراد به تركها لله