بيان أن أم لا . الوسواس هل يتصور أن ينقطع بالكلية عند الذكر
اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق .
فقالت فرقة : الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال فإذا ذكر الله خنس والخنس هو السكوت فكأنه يسكت .
وقالت فرقة لا ينعدم أصله ، ولكن يجري في القلب ، ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعبا بالذكر كان محجوبا عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه قد يتكلم ولا يفهم ، وإن كان الصوت يمر على سمعه .
وقالت فرقة لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضا ، ولكن تسقط غلبتها للقلب فكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف .
وقالت فرقة ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظة ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوية وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك ، إذا أدرتها بسرعة رأيت النقط دوائر لسرعة تواصلها بالحركة ، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا .
وقالت فرقة الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقا لا ينقطع ، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة ، فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين فقد ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما من عبد إلا وله أربعة أعين : عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه " وإلى هذا ذهب المحاسبي .
والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس ، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه .
الأول : أن يكون من جهة التلبيس بالحق ، فإن الشيطان قد يلبس بالحق فيقول للإنسان : تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه ، وقال لنفسه : الصبر عن الشهوات شديد ، ولكن الصبر على النار أشد منه ، ولا بد من أحدهما ، فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب إذ لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ، ولا يمكنه أن يقول : المعصية لا تفضي إلى النار ، فإن إيمانه بكتاب الله عز وجل يدفعه عن ذلك ، فينقطع وسواسه وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول : أي عبد يعرف الله كما تعرفه ويعبده كما تعبده ، فما أعظم مكانك عند الله تعالى فيتذكر العبد حينئذ أن معرفته وقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه ، كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول : ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه ، فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة . والوسواس أصناف:
الصنف الثاني أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها وهذا ينقسم إلى ما يعلم العبد يقينا أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن ، فإن علمه يقينا خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم يخنس عن التهييج ، وإن كان مظنونا فربما يبقى مؤثرا بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنها مدفوعة غير غالبة .
الصنف الثالث : أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة ، والتفكر في غير الصلاة مثلا ، فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود ويندفع ويعود فيتعاقب الذكر والوسوسة ويتصور أن يتساوقا جميعا حتى يكون الفهم مشتملا على فهم معنى القراءة ، وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب وبعيد جدا أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر ، ولكنه ليس محالا إذا ، قال صلى الله عليه وسلم - : " فلولا أنه متصور لما ذكره إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر فإنا قد نرى المستوعب القلب بعدو تأذى به ، قد يتفكر بمقدار ركعتين وركعات في مجادلة عدوه بحيث لا يخطر بباله غير حديث محبوبه ولو كلمه غيره لم يسمع ولو اجتاز بين يديه أحد لكان كأنه لا يراه وإذا تصور هذا في خوف من عدو ، وعند الحرص على مال وجاه ، فكيف لا يتصور من خوف النار والحرص على الجنة ، ولكن ذلك عزيز لضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وإذا ، تأملت جملة هذه الأقسام وأصناف الوسواس علمت أن لكل مذهب من المذاهب وجها في محل مخصوص . من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمر الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه "
وبالجملة ، فالخلاص من الشيطان في لحظة أو ساعة غير بعيد ، ولكن الخلاص منه عمرا طويلا بعيد جدا ومحال في الوجود ولو تخلص أحد من وساوس الشيطان بالخواطر وتهييج الرغبة لتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد - روي أنه - - نظر إلى علم ثوبه في الصلاة ، فلما سلم رمى بذلك الثوب وقال : " شغلني عن الصلاة وقال اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته وكان في يده خاتم من ذهب فنظر إليه وهو على المنبر ثم رمى به قال ، نظرة إليه ونظرة إليكم وكان ذلك لوسوسة الشيطان بتحريك لذة النظر إلى خاتم الذهب وعلم الثوب ، وكان ذلك قبل تحريم الذهب ، فلذلك لبسه ثم رمى به فلا تنقطع وسوسة عروض الدنيا ونقدها إلا بالرمي والمفارقة فما دام يملك شيئا وراء حاجته ولو دينارا واحدا لا يدعه الشيطان في صلاته من الوسوسة في الفكر في ديناره وأنه كيف يحفظه وفيماذا ، ينفقه ، وكيف يخفيه حتى لا يعلم به أحد وكيف يظهره حتى يتباهى به إلى غير ذلك من الوساوس فمن أنشب مخالبه في الدنيا وطمع في أن يتخلص من الشيطان كان كمن انغمس في العسل وظن أن الذباب لا يقع عليه فهو محال ، فالدنيا باب عظيم لوسوسة الشيطان ، وليس له باب واحد بل أبواب كثيرة قال حكيم من الحكماء الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي ، فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة فإن أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرم ما ليس بحرام فإن أبى شككه في وضوئه وصلاته حتى يخرجه عن العلم ، فإن أبى خفف عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابرا عفيفا ، فتميل قلوبهم إليه فيعجب بنفسه ، وبه يهلكه وعند ذلك ، يشتد إلحاحه ، فإنها آخر درجة ، ويعلم أنه لو جاوزها أفلت منه إلى الجنة .