بيان . علامات حسن الخلق
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه ، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه ، واستغنى عن المجاهدة فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق ، فإن حسن الخلق هو الإيمان ، وسوء الخلق هو النفاق . وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق فلنورد ، جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق ، قال الله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون إلى قوله : أولئك هم الوارثون وقال عز وجل التائبون العابدون الحامدون إلى قوله : وبشر المؤمنين ، وقال عز وجل إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى قوله : أولئك هم المؤمنون حقا وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى آخر السورة من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات وفقد جميعها علامة سوء الخلق ، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض ، فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة ، وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال علامة حسن الخلق وقال عليه السلام المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه . من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه
وقال صلى الله عليه وسلم وقال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره . من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال صلى الله عليه وسلم : وقال صلى الله عليه وسلم - : أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا إذا رأيتم المؤمن صموتا وقورا فادنوا منه ، فإنه يلقن الحكمة .
وقال - - : وقال - - : من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال صلى الله عليه وسلم - : وقال صلى الله عليه وسلم - : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه وجمع بعضهم إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل فقال هو : أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان قليل الكلام كثير العمل قليل الزلل قليل الفضول برا وصولا وقورا صبورا شكورا رضيا حليما رفيقا عفيفا شفيقا لا لعانا ولا سبابا ولا نماما ولا مغتابا ولا عجولا ولا حقودا ولا بخيلا ولا حسودا بشاشا هشاشا يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله ، فهذا هو حسن الخلق ، علامات حسن الخلق وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامة المؤمن والمنافق فقال : " إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة والمنافق ، همته في الطعام والشراب كالبهيمة " وقال حاتم الأصم المؤمن مشغول بالفكر والعبر والمنافق مشغول بالحرص والأمل والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله والمنافق راج كل أحد إلا الله ، والمؤمن آمن من كل أحد إلا من الله ، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله ، والمؤمن يقدم ماله دون دينه والمنافق يقدم دينه دون ماله والمؤمن يحسن ويبكي والمنافق يسيء ويضحك والمؤمن يحب الخلوة والوحدة والمنافق يحب الخلطة والملأ والمؤمن يزرع ويخشى الفساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد .
وأولى ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه فإن ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذبا شديدا وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية ، قال حسن الخلق احتمال الأذى رضي الله عنه : حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه فقال ، يا محمد ، هب لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك - ، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قيل إن هذا يوم أحد ، فلذلك أنزل الله تعالى أنس وإنك لعلى خلق عظيم ويحكى أن خرج يوما إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال : أنت عبد قال ؟ : نعم فقال له : أين العمران ? فأشار إلى المقبرة فقال الجندي : إنما أردت العمران ، فقال : هو المقبرة ، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا : ما الخبر ؟ فأخبرهم الجندي ما قال له ، فقالوا : هذا إبراهيم بن أدهم فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه ، وجعل يعتذر إليه ، فقيل بعد ذلك له : لم قلت له : أنا عبد فقال ؟ : إنه لم يسألني عبد من أنت ? بل قال : أنت عبد ? فقلت : نعم ، لأني عبد الله ، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك ؟ فقال : علمت أنني أوجر على ما نالني منه فلم أرد يكون نصيبي منه الخير ، ونصيبه مني الشر . إبراهيم بن أدهم ،
ودعي ، أبو عثمان الحيري إلى دعوة وكان الداعي قد أراد تجربته فلما بلغ منزله قال له : ليس لي وجه ، فرجع أبو عثمان ، فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانيا فقال له يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى ، فرجع ، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت، فرجع فلما بلغ الباب قال له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات ، وأبو عثمان لا يتغير من ذلك فأكب على رجليه وقال يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك ، فما أحسن خلقك ، فقال إن : الذي رأيت مني هو خلق الكلب إن الكلب إذا دعي أجاب ، وإذا زجر انزجر وروي عنه أيضا أنه اجتاز يوما في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئا فقيل ألا زبرتهم فقال : إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب وروي أن علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد ؛ إذ كانت أمه سوداء وكان بنيسابور حمام على باب داره ، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه ، فتقدم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل ، فرأى علي بن موسى الرضا ، فظن أنه بعض خدام الحمام ، فقال له : قم واحمل إلي الماء ، فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به ، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا ، فخاف وهرب وخلاهما ، فلما خرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له : إنه خاف مما جرى فهرب قال : لا ينبغي له أن يهرب ، إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان ، إذا خاط له شيئا حمل إليه دراهم زائفة فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه ، فاتفق يوما أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهما زائفا فلما نظر إليه التلميذ عرف أنه زائف فرده عليه ، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلما وقال علامة حسن الخلق عشر خصال : قلة الخلاف وحسن الإنصاف وترك طلب العثرات وتحسين ما يبدو من السيئات والتماس المعذرة واحتمال الأذى والرجوع بالملامة على النفس ، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره ، وطلاقة الوجه للصغير والكبير ، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه وسئل سهل عن حسن الخلق فقال أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه . يوسف بن أسباط
وقيل : ممن تعلمت الحلم ؟ فقال : من للأحنف بن قيس قيس بن عاصم قيل وما بلغ : من حلمه ؟ قال : بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات ، فدهشت الجارية ، فقال لها : لا روع عليك ، أنت حرة لوجه الله تعالى فقيل أن أويسا القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم : يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه ، فلما قرب من الحي وقف وقال : إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك وروي أن كرم الله وجهه دعا غلاما فلم يجبه فدعاه ثانيا وثالثا فلم يجبه ، فقام إليه فرآه مضطجعا فقال : أما تسمع يا غلام قال ؟ : بلى قال : فما حملك على ترك إجابتي ؟ قال أمنت : عقوبتك فتكاسلت فقال : امض فأنت حر لوجه الله تعالى وقالت امرأة عليا رحمه الله . لمالك بن دينار
يا مرائي ، فقال : يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة .
وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له : لم تمسكه فقال ؟ : لأتعلم الحلم عليه .
فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق .
فإن من يكره فعل الله تعالى ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه ، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه .
فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه ، فيظن بها حسن الخلق ، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون .