فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي رافعا عن الولاية ، ثم تقلده لها ليس بمتناقض . أبي بكر
وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما ؛ فإن كل ذي ولاية أمير ، أي : له أمر نافذ والإمارة محبوبة بالطبع والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق ، والعقاب فيه أيضا عظيم مع العدول عن الحق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض ؛ في الجنة .
وقال عليه السلام من استقضي فقد ذبح بغير سكين .
فحكمه حكم الإمارة ، ينبغي أن يتركه الضعفاء ، وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم .
ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم ؛ إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء ، وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذرا مرخصا له في الإهمال أصلا ، بل إذا عزل سقطت العهدة عنه ، فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان ، فكيف يرتقب عليه ثوابا ؟! وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار .
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية وكل ما يتسع بسببه الجاه ، ويعظم به القدر ، فآفته أيضا عظيمة مثل آفة الولايات ، وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلا وكانوا يقولون حدثنا باب من أبواب الدنيا ، ومن قال : حدثنا فقد قال أوسعوا لي .
ودفن بشر كذا وكذا قمطرا من الحديث وقال : يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت .
والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة ، فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام ، وإن كان باطلا ، ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقا ، ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم ، فلا يسمع حديثا وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة ، وطريق سلوك سبيل الدين ؛ ليعمل به أولا ، ثم يقول : إذا أنعم الله بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون .
فهذا أيضا مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات ، فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين ، والتفاخر والتكاثر ، فينبغي أن يتركه ، ويخالف الهوى فيه ، إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة ، فعند ذلك يعود إليه .
فإن قلت : مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وعم الجهل كافة الخلق . فنقول : قد وتوعد عليها حتى قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة ، وقال : « إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من أخذها بحقها، نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعا، وثار القتال بين الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهى عنها مع ذلك، وضرب عمر حين رأى قوما يتبعونه، وهو في ذلك يقول: أبي بن كعب أبي سيد المسلمين، وكان يقرأ عليه القرآن فمنع أن يتبعوه، وقال: ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه، واستأذن رجل أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنعه فقال: أتمنعني من نصح الناس، فقال: أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق . عمر