الطرف الثالث في . نعم الله تعالى في خلق القدرة وآلات الحركة
اعلم أن الحس لا يفيد إلا الإدراك والإرادة لا معنى لها إلا الميل إلى الطلب والهرب ، وهذا لا كفاية فيه ما لم تكن فيك آلة الطلب والهرب ، فكم من مريض مشتاق إلى شيء بعيد عنه مدرك له ، ولكنه لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يده أو لفلج وخدر فيهما فلا بد من آلات للحركة ، وقدرة في تلك الآلات على الحركة ، لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلبا ، وبمقتضى الكراهية هربا فلذلك خلق الله تعالى لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها فمنها ما هو للطلب والهرب ، كالرجل للإنسان والجناح للطير ، والقوائم للدواب . ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان ، والقرون للحيوان ، وفي هذا تختلف الحيوانات اختلافا كثيرا ، فمنها ما يكثر أعداؤه ، ويبعد غذاؤه ، فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة ومنها ما خلق له أربع قوائم ومنها ما له رجلان ومنها ما يدب وذكر ذلك يطول فلنذكر الأعضاء التي بها يتم الأكل فقط ليقاس عليها غيرها ، فنقول : رؤيتك الطعام من بعد ، وحركتك إليه ، لا تكفي ما لم تتمكن من أن تأخذه فافتقرت إلى آلة باطشة ، فأنعم الله تعالى عليك بخلق اليدين وهم ، طويلتان ممتدتان إلى الأشياء ، ومشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات ، فتمتد وتنثني إليك فلا تكون كخشبة منصوبة ثم جعل رأس اليد عريضا بخلق الكف ، ثم قسم رأس الكف بخمسة أقسام هي الأصابع ، وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ، ويدور على الأربعة الباقية ، ولو كانت مجتمعة أو متراكمة لم يحصل به تمام غرضك ، فوضعها وضعا إن بسطتها كانت لك مجرفة ، وإن ضمتها كانت لك مغرفة ، وإن جمعتها كانت لك آلة للضرب ، وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة في القبض ثم خلق لها أظفارا وأسند إليها رءوس الأصابع حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع فتأخذها برءوس أظفارك ثم هب أنك أخذت الطعام باليدين فمن أين يكفيك هذا ما لم يصل إلى المعدة ، وهي في الباطن فلا بد ، وأن يكون من الظاهر دهليز إليها حتى يدخل الطعام منه فجعل الفم منفذا إلى المعدة مع ما فيه : من الحكم الكثيرة سوى كونه منفذا للطعام إلى المعدة ثم إن وضعت الطعام في الفم وهو : قطعة واحدة فلا يتيسر ابتلاعه فتحتاج إلى طاحونة تطحن بها الطعام فخلق لك اللحيين من عظمتين وركب فيهما الأسنان وطبق الأضراس العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحنا ، ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر ، وتارة إلى القطع ، ثم يحتاج إلى طحن بعد ذلك ، فقسم الأسنان إلى عريضة طواحين كالأضراس ، وإلى حادة قواطع كالرباعيات ، وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب .