الطرف السابع في إصلاح المصلحين
اعلم أن هؤلاء وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ، ولم ينتفع بعضهم ببعض ، بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ، ولا يجمعهم غرض واحد ، فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم ، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ، فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ، ويتنافسون فيها ، الصناع المصلحين للأطعمة ، وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر ، فانظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعا وكرها وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء البلد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض فرتبوا الرؤساء والقضاة والشحن وزعماء الأسواق واضطروا الخلق : إلى قانون العدل وألزموهم التساعد والتعاون ، حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد ، وكلهم ينتفعون بالحداد ، وصار الحجام ينتفع بالحراث ، والحراث بالحجام ، وينتفع كل واحد بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه ، كما يتعاون جميع أعضاء البدن وينتفع بعضها ببعض وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا ، وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق ، وقوانين السياسة في ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة ، وأحكام الفقه ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة
ما اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا ، فضلا عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين ، وانظر كيف أصلح الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض ، إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذي لا واسطة بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين ، والطحان يصلح الحب بالطحن ، والحراث يصلحه بالحصاد ، والحداد يصلح آلات الحراثة ، والنجار يصلح آلات الحداد ، وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة ، والسلطان يصلح الصناع والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم والعلماء يصلحون السلاطين والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ، ومطلع كل حسن وجمال ، ومنشأ كل ترتيب وتأليف ، وكل ذلك نعم من رب الأرباب ، ومسبب الأسباب ولولا فضله وكرمه ؛ إذ قال تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "، لما اهتدينا إلى هذه النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى ، ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء ولكنه تعالى عزلنا بحكم القهر والقدرة ، فقال تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، فإن تكلمنا فبإذنه انبسطنا ، وإن سكتنا فبقهره انقبضنا ؛ إذ لا معطي لما منع ، ولا مانع لما أعطى ، لأنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار : لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار فالحمد لله الذي ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل انقضاء الأعمار .