بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه
اعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار ، وتارة بالآيات والأخبار ،
أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى ؛ في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه ، والقرب منه ، فكل ما أعان عليه فله فضيلة ، وفضيلته بقدر ، غايته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته ، والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ، ويحث على الطاعات ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة ، والورع ، والتقوى ، والمجاهدة ، وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى فإن فضيلته بقدر ما يحرق من ،
وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى ، والرحمة ، والعلم والرضوان ، وهي مجامع مقامات أهل الجنان ، وقال الله تعالى : هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء ، وصفهم بالعلم لخشيتهم :
وقال : عز وجل رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف ؛ لأن الخوف ثمرة العلم ولذلك جاء في خبر موسى عليه : أفضل الصلاة والسلام وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك لأنهم العلماء ، لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا ، وبين القدوم على الله تعالى ، كان يقول : والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء ؛ أسألك الرفيق الأعلى
فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما ورد في فضائلهما : حتى إن العاقبة صارت موسومة بالتقوى ، مخصوصة ، بها كما صار الحمد مخصوصا بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يقال : الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين .
وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، وإنما كما سبق ، ولذلك قال تعالى : التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى ، فقال : تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وقال عز وجل : وخافون إن كنتم مؤمنين ، فأمر بالخوف وأوجبه ، وشرطه في الإيمان
فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف ، وعن ضعف ، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى : وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أقصاهم ، كما يسمع أدناهم : فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم ، إنما هي أعمالكم ترد عليكم ، أيها الناس إني قد جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا ، فوضعتم نسبي ، ورفعتم نسبكم ، قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان ، وفلان أغنى من فلان ، فاليوم أضع نسبكم ، وأرفع نسبي ، أين المتقون ؟ فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم ، فيدخلون الجنة بغير حساب
وقال عليه : الصلاة والسلام رأس الحكمة : مخافة الله
وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود : إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي
وقال الفضيل من خاف الله دله الخوف على كل خير :
وقال الشبلي رحمه الله ما خفت الله يوما إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط
وقال ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان ، خوف العقاب ، ورجاء العفو ، كثعلب بين أسدين يحيى بن معاذ
وفي خبر موسى عليه : الصلاة والسلام وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب ، وفتشت عما في يديه ، إلا الورعين ، فإني ، أستحي منهم وأجلهم ، أن أوقفهم للحساب
والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف ، فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي ، وكذلك ما ورد في لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصا بالخائفين ، فقال : فضائل الذكر سيذكر من يخشى
وقال تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وقال صلى الله عليه وسلم : وقال صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء وقال صلى الله عليه وسلم : أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله تعالى ، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ، ونهى عنه نظرا
وقال رحمة الله عليه مسكين ابن آدم ، لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة يحيى بن معاذ
وقال ذو النون رحمه الله تعالى من خاف الله تعالى ذاب قلبه ، واشتد ، لله حبه ، وصح له لبه
وقال ذو النون أيضا ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء : فإذا غلب الرجاء تشوش القلب : وكان أبو الحسين الضرير يقول : علامة السعادة خوف الشقاوة : لأن الخوف زمام بين الله تعالى ، وبين عبده ، فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين .
وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غدا ؟ فقال : أشدهم خوفا اليوم :
وقال سهل رحمه الله لا تجد الخوف : حتى تأكل الحلال .
وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع ؟ نجالس أقواما يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير : فقال والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك ، أمن خير لك من أن تصحب قوما يؤمنونك حتى يدركك الخوف
وقال رحمه الله ما فارق الخوف قلبا إلا خرب أبو سليمان الداراني
وقالت رضي الله عنها : قلت : يا رسول الله عائشة والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال : لا ، بل الرجل يصوم ، ويصلي ، ويتصدق ، ويخاف أن لا يقبل منه
.
[ ص: 209 ]