الشطر الثاني من الكتاب في الخوف
وفيه بيان حقيقة الخوف ، وبيان ، درجاته وبيان أقسام المخاوف ، وبيان فضيلة الخوف ، وبيان الأفضل من الخوف والرجاء ، وبيان دواء الخوف ، وبيان معنى سوء الخاتمة ، وبيان أحوال الخائفين من الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين رحمة الله عليهم ونسأل الله حسن التوفيق
بيان حقيقة الخوف
اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في ، الاستقبال ، وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله ، وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا لجمال الحق على الدوام ، لم يبق له التفات إلى المستقبل فلم يكن له خوف ، ولا رجاء ، بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء ، فإنهما زمامان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها : وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال : الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد
وقال أيضا : إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها : فضلة لرجاء ولا لخوف وبالجملة فالمحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما دوام الشهود غاية المقامات ولكنا الآن إنما نتكلم في أوائل المقامات ، فنقول : حال الخوف ينتظم أيضا من علم ، وحال ، وعمل
أما العلم فهو العلم بالسبب المفضي إلى المكروه وذلك كمن جنى على ملك ثم وقع في يده : فيخاف القتل مثلا ، ويجوز العفو والإفلات : ولكن يكون تألم قلبه بالخوف بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية : إلى قتله ، وهو تفاحش جنايته ، وكون الملك في نفسه حقودا غضوبا منتقما ، وكونه محفوفا بمن يحثه على ، الانتقام ، خاليا عمن يتشفع إليهم في حقه ، وكان هذا الخائف عاطلا عن كل وسيلة وحسنة تمحو أثر جنايته عند الملك . فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوة الخوف ، وشدة تألم القلب ، وبحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف : بل عن صفة المخوف كالذي وقع في مخالب سبع ، فإنه يخاف السبع لصفة ذات السبع ، وهي ، حرصه وسطوته على الافتراس غالبا ، وإن كان . افتراسه بالاختيار . وقد يكون من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق ؛ فإن الماء يخاف لأنه بطبعه مجبول على السيلان والإغراق وكذا النار على الإحراق ، فالعلم بأسباب المكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه وذلك الإحراق هو الخوف ، فكذلك وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ، ولم يمنعه مانع وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي : وتارة يكون بهما جميعا ، وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه وأنه لا يسأل عما يفعل وهم ، يسألون ، فيكون قوة خوفه الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه ، وبربه ؛ أنا أخوفكم لله وكذلك قال الله تعالى : إنما يخشى الله من عباده العلماء .