وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو ، المخوف أعني أن يخاف ، العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه .
قال ذو النون رحمه الله تعالى خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي : وهذه حيث قال تعالى : خشية العلماء ، إنما يخشى الله من عباده العلماء ولعموم المؤمنين أيضا حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضا هي خوف الصبي من الحية تقليدا لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب ، حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحية فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليدا له كما احترز من أخذها تقليدا لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام ، وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات ، واجتناب المعاصي ، مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة : وعرف الله تعالى خافه بالضرورة ، فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف ، كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعا في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى ؛ ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه : الصلاة والسلام خفني كما تخاف السبع الضاري .
ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ، ومعرفة الوقوع في مخالبه ، فلا يحتاج إلى حيلة ، سواه ، فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ، ويحكم ما يريد ، ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة بل صفته ما ترجمه قوله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي .
وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ، ولا يثيب إلا على طاعة ، فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ، ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصي شاء أم أبى ، فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعا بها بالضرورة ، فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية ؟! هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد ، بل قضي عليه في الأزل .وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال : آدم موسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى : أنت آدم الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك جنته ، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض ؟! .
فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته ، وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقربك نجيا ؟! فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال : موسى بأربعين عاما .
قال آدم : فهل وجدت فيها : وعصى آدم ربه فغوى ؟ قال : نعم .
قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟! قال صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى . احتج
فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ، ومن سمع هذا فآمن به ، وصدق بمجرد السماع ، فهو من عموم المؤمنين ، ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كل عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع ، والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه فيفترسه ، وذلك بحسب ما يتفق ؛ ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقا ، وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقا ، والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع ، لأن السبع مسخر ، إن سلط عليه الجوع افترس ، وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك ، فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست أقول : مثال الخوف من السبع ، بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى ؛ لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا ، وأن الخوف من الله تعالى وخلق لكل واحد أهلا يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له ، فخلق الجنة ، وخلق لها أهلا سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا ، وخلق النار وخلق لها أهلا سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة ، فهذه مخاوف العارفين بسر القدر ، فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار ، فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى : في أن الاقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء ، والأولياء ، والعلماء . الله تعالى خلق أسباب العذاب ، وأسباب الثواب ،
وأما الآمنون فهم الفراعنة ، والجهال والأغبياء
أما . رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرين
وكان أشد الناس خوفا حتى روي أنه كان يصلي على طفل ، ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول: اللهم قه عذاب القبر ، وعذاب النار
وفي رواية ثانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا على جنازة أنه سمع : قائلا يقول: هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة ، فغضب وقال : ما يدريك أنه كذلك ؟! والله إني رسول الله ، وما أدري ما يصنع بي ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، لا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم وكان من المهاجرين الأولين لما قالت عثمان بن مظعون هنيئا لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك : والله لا أزكي أحدا بعد أم سلمة عثمان
وقال محمد بن خولة الحنفية والله لا أزكي أحدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبي الذي ولدني ، قال : فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل ومناقبه . علي
وروي في حديث آخر . عن رجل من أهل الصفة استشهد ، فقالت أمه : هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة ، هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتلت في سبيل الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ، ينفعه ويمنع ما لا يضره
وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل ، فسمع امرأة تقول : هنيئا لك الجنة ، فقال صلى الله عليه وسلم : من هذه المتألية على الله ؟! تعالى فقال المريض : هي أمي يا رسول الله ، فقال : وما يدريك لعل فلانا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه
وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول : شيبتني هود وأخواتها
سورة الواقعة وإذا الشمس كورت ، وعم يتساءلون فقال العلماء : لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد ؛ كقوله تعالى : ألا بعدا لعاد قوم هود ، ألا بعدا لثمود ، ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذ لو شاء لآتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في الدنيا ، وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا .
وفي سورة التكوير وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى : أهوال يوم القيامة وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت وفي عم يتساءلون : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، الآية ، وقوله تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا .