وأما منتهى الشفقة فيكون باعثا له على بذل كل ما يقدر عليه في حقه من المجهود فإن قدرته لا تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالي به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك به حقه أو لم يهلك فإن كان شاكا في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ، ويكون تفاوت درجة أحواله في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه ، والاعتقادات والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتا لا ينحصر إلى أن ينتهي إلى اليقين الذي لا ضعف فيه كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله فإنه يحصل له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية .
وكذلك سائر الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار بأنه أفصح الناس لسانا وأقدرهم بيانا وأقدرهم على نصرة الحق بل على تصوير الحق بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله تعالى فإن ثبت في نفسك بكشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة فإن الحول عبارة عن الحركة والقوة عبارة عن القدرة .
فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين إما ضعف اليقين بإحدى ، هذه الخصال الأربعة ، وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين فإن من يتناول عسلا فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقنا بكونه ميتا وأنه ، جماد في الحال وأن ، سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا يحييه ، وإن كان قادرا عليه كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ، ولا يقلب السنور أسدا ، وإن كان قادرا عليه ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر ، طبعه عن مضاجعة الميت في فراش ، أو المبيت معه في البيت ، ولا ينفر عن سائر الجمادات وذلك جبن في القلب وهو نوع ضعف قلما ، يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل ، وقد يقوى فيصير مرضا حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه فإذن لا ، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته فالسكون ، في القلب شيء واليقين شيء آخر ، فكم من يقين لا طمأنينة معه ، كما قال تعالى لإبراهيم عليه السلام يتم التوكل إلا بقوة القلب وقوة اليقين جميعا ؛ أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فالتمس أن يكون مشاهدا إحياء الميت بعينه ؛ ليثبت في خياله ، فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة وذلك لا يكون في البداية أصلا ، وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب فإن اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده وكذا ، النصراني ولا يقين لهم أصلا ، وإنما يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين إلا أنهم معرضون عنه .
فإذا الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها ؛ فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت الثقة بالله تعالى وقد قيل : مكتوب في التوراة ملعون من ثقته إنسان مثله وقد قال : صلى الله عليه وسلم : من استعز بالعبيد أذله الله تعالى .