فإن قلت : الناس يكفلون اليتيم ؛ لأنهم يرونه عاجزا بصباه وأما هذا فبالغ قادر على الكسب ، فلا يلتفتون إليه ، ويقولون هو مثلنا فليجتهد لنفسه فأقول : إن كان هذا القادر بطالا فقد صدقوا فعليه الكسب ، ولا معنى للتوكل في حقه فإن ، فما للبطال والتوكل وإن كان مشتغلا بالله ملازما لمسجد ، أو بيت ، وهو مواظب على العلم والعبادة ، فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ، ولا يكلفونه ذلك ، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملوا إليه فوق كفايته ، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ، ولا يهرب إلى جبل من بين الناس وما رئي إلى الآن عالم ، أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى ، وهو في الأمصار فمات جوعا ، ولا يرى قط ، بل لو أراد أن يطعم جماعة من الناس بقوله : لقدر عليه ، فإن من كان لله تعالى كان الله : عز وجل له ومن اشتغل بالله عز وجل ألقى الله حبه في قلوب الناس ، وسخر له القلوب ، كما سخر قلب الأم لولدها فقد دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيرا كافيا لأهل الملك والملكوت . التوكل مقام من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى
فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى الأسباب نعم ما دبره تدبيرا يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان ، والثياب الرقيقة ، والخيول النفيسة على الدوام لا محالة ، وقد يقع ذلك أيضا في بعض الأحوال ، لكن دبره تدبيرا ، يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش يتناوله لا محالة ، والغالب أنه يصل أكثر منه ، بل يصل ، ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية ، ولبس الثياب الناعمة ، وتناول الأغذية اللطيفة وليس ذلك من طريق الآخرة وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب ، وهو في الغالب أيضا ليس يحصل مع الاضطراب ، وإنما يحصل نادرا ، وفي النادر أيضا قد يحصل بغير اضطراب ، فأثر الاضطراب ضعيف عند من انفتحت بصيرته ، فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه ، بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيرا لا يجاوز عبدا من عباده رزقه ، وإن سكن إلا نادرا ندورا عظيما يتصور مثله في حق المضطرب ، فإذا انكشفت هذه الأمور ، وكان معه قوة في القلب ، وشجاعة في النفس أثمر ما قاله فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ، الحسن البصري : رحمه الله ؛ إذ قال : وددت أن أهل البصرة في عيالي وأن ، حبة بدينار .
وقال وهيب بن الورد لو كانت السماء نحاسا ، والأرض رصاصا ، واهتممت برزقي لظننت أني مشرك .
فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن وعلمت أن من التوكل مقام مفهوم في نفسه ، ويمكن الوصول إليه لمن قهر نفسه أنكره عن جهل فإياك أن تجمع بين الإفلاسين الإفلاس ؛ عن وجود المقام ذوقا والإفلاس ، عن الإيمان به علما . أنكر أصل التوكل وإمكانه