وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله ، ويكون فيها مغرورا ؛ لأنه لا يرى وجه الآفة فيها كما حكي عن بعضهم أنه قال : قضيت صلاة ثلاثين سنة ، كنت صليتها في المسجد في الصف الأول ؛ لأني تأخرت يوما لعذر ، فصليت في الصف الثاني ، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني ، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي ، وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر .
وهذا دقيق غامض ، قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من ، يتنبه له إلا من وفقه الله تعالى والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وبقوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع ، والاستبشار بالحمد والثناء ، والشيطان يلبس عليهم ذلك ، ويقول : غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ، ووعظه للسلاطين ، ويفرح بقبول الناس قوله ، وإقبالهم عليه .
وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا ، وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره .
ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ، ويقول إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك ؛ إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب ، واغتمامك لفوات الثواب محمود ، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا وأعوذ ، عليه في الآخرة من انفراده .
وليت شعري لو اغتم رضي الله عنه بتصدي عمر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محمودا أو مذموما ، ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموما لأن ؛ انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل ، بل فرح أبي بكر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر . عمر
فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به ، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور ؛ فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر ، ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد .
وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس ، وطال اشتغاله بامتحانها ، فمعرفة والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو ، المستثنى في قوله تعالى : حقيقة الإخلاص إلا عبادك منهم المخلصين فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق ، وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر .