وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها: «وما روي في حديث أم الطفيل من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء» فقوله هنا: ليلة الإسراء تناقض منه؛ فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة، وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام، وأيضا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة [ ص: 231 ] حديث وابن عباس معاذ كما تقدم من كلام وإنما وهم فيه ابن خزيمة، أبو قلابة فقال: وإنما هو ابن عباس، ابن عائش، وليس هذا هو حديث عن قتادة عكرمة، فإن ذلك ليس فيه هذا، لكن قد جعل الجميع حديثا واحدا في الأصل، ولا ريب أن أحمد كان عنده هذا عن قتادة عكرمة، يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل، وإن كان فيه زيادات، وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة، رواه محتجا به، فقال: حدثنا ابن خزيمة محمد بن عيسى، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، حدثني محمد بن إسحاق.
[ ص: 232 ] ورواه في السنة، حدثنا أبو بكر الخلال يزيد بن جمهور، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري، حدثني أبي، حدثنا هارون بن محمد، عن محمد بن إسحاق.
ورواه في الإبانة [ ص: 233 ] قال: حدثنا ابن بطة أحمد بن محمد الباغندي، حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد الله بن أبي [ ص: 234 ] سلمة أن رضي الله عنهما بعث إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فسأله: عبد الله بن العباس هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فأرسل إليه أن نعم، فرد عليه عبد الله بن عباس رسوله: أن كيف رآه؟ فأرسل إليه «أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب، على كرسي من ذهب، يحمله أربعة من الملائكة، ملك في صورة رجل، وملك في صورة ثور، وملك في صورة نسر، وملك في صورة أسد» عبد الله بن عمر زاد بالإسناد عن ابن بطة ابن إسحاق: حدثني [ ص: 235 ] عن يعقوب بن عتبة عكرمة، عن قال: ابن عباس أمية بن أبي الصلت:
رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق» وهذا أيضا رواه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول محتجا به من غير وجه في مسألة العرش وحملته. ابن [ ص: 236 ] خزيمةوروى هذه الألفاظ من طرق، فقوله: الدارقطني «في روضة خضراء دونه فراش من ذهب» مثل قوله في حديث أم أبي الطفيل: «قدماه في الخضر على وجهه فراش من ذهب» وقوله في لفظ حديث أم الطفيل: «في صورة شاب ذي وفرة» وهذا يناسب قوله في حديث ابن عباس: «شابا جعدا قططا» لكن في هذا زيادة «الأمرد .. والحلة الخضراء» وفي حديث أم الطفيل زيادة «في رجليه نعلان من ذهب» وفي حديث الآخر ابن عباس «على كرسي من ذهب» وأما ذكر الحملة الأربعة فهؤلاء في أحاديث أخر في اليقظة، فهذا مما يحتج به لما ذكره من أن حديث أحمد عكرمة عن أصله أصل حديث ابن عباس أم الطفيل، والله أعلم بحقيقة ذلك؛ فإن أحاديث المشهورة عنه في أنه رآه بفؤاده مرتين إنما كان ذلك ابن عباس بمكة، فإنه ذكره في تفسير سورة النجم، وهي مكية باتفاق العلماء، وما روته أم الطفيل ومعاذ إنما هو [ ص: 237 ] بالمدينة، فحديث عكرمة عن يشبه ألفاظ حديث ابن عباس أم الطفيل، يؤيد ذلك أن الأسانيد المتواترة عن إنما فيها إخبار أنه رآه بفؤاده، وأنه قال ذلك في تفسير القرآن، فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بلفظه عن رؤية ليلة المعراج لم نحتج إلى ذلك، ولكان هذا هو الذي يعتمد عليه دون ما تأوله من القرآن؛ ولهذا لم يثبت ابن عباس -رحمه الله- إلا ما ثبت عن الإمام أحمد من رؤيته بفؤاده، ومن رواية هذه الأحاديث التي جاءت على الوجه التي جاءت عليها، وذلك يدفع قول من أطلق نفي الرؤية، ولا يدفع قول من نفى رؤية البصر كما جمع بينهما. ابن عباس
وقد يقال: إن حديث عكرمة عن هو تفسيره للرؤية التي بفؤاده، التي كانت ابن عباس بمكة، لكن هذه الزيادات التي في حديث عكرمة لا تؤخذ بمجرد تأويل القرآن، بل يحتاج إلى توقيف، وكذلك الزيادة التي في حديث مسألة ابن عمر لابن عباس.
[ ص: 238 ] وقد تبين بما ذكرناه أن الحديث الذي فيه إنما كان في المنام «أتاني ربي في أحسن صورة ووضع يده بين كتفي بالمدينة، ولم يكن ذلك ليلة المعراج، كما يظنه كثير من الناس، وكنت مرة بمجلس فيه طوائف من أصناف العلماء في مجلس ابتداء تدريس لشيخ الحنفية، وجرى ذكر هذا الحديث، فظنوا أنه كان ليلة المعراج، فقلت: هذا لم يكن ليلة المعراج، فإن هذا كان بالمدينة كما جاء مصرحا به، والمعراج إنما كان بمكة، كما قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [الإسراء: 1] وهذا مما تواترت به الأحاديث، واتفق عليه أهل العلم، أن إنما كان المعراج الذي ذكره الله تعالى في القرآن، والذي فيه فرض الصلوات الخمس بمكة، ولم يكن بعد الهجرة، ونفس ما في الحديث بين ذلك، فإنه ذكر فيه اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وهذا إنما شرع في المدينة؛ إذ لم تشرع الجمعة بمكة، وهذا مما لم يرتب فيه العلماء، وإنما وقع ذلك في أحاديث الثابتة عنه كحديث ابن عباس عكرمة ونحوه؛ لأن قد ثبت عنه أنه كان يثبت رؤية ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده في مكة كما ذكر ذلك [ ص: 239 ] في تفسير سورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء.
قال في كتاب النقض على عثمان بن سعيد الدارمي ومتبعيه قال: (وروى المعارض عن المريسي شاذان، عن عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عكرمة، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس، «دخلت على ربي في جنة عدن شابا جعدا في ثوبين أخضرين» قال: وليس هذا من الحديث الذي يجب على العلماء نشره وإذاعته في أيدي الصبيان، فإن كان منكرا عند المعارض فكيف يستنكره مرة ثم يثبته أخرى فيفسره تفسيرا أنكر من الحديث، والله أعلم بهذا الحديث وبعلته، غير أني أستنكره جدا؛ لأنه يعارضه حديث أبي ذر ويعارضه قول أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنى أراه» رضي الله عنها: عائشة وتلت «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، لا تدركه الأبصار وهو يدرك [ ص: 240 ] الأبصار [الأنعام: 103] فهذا هو الوجه عندنا فيه والتأويل، والله أعلم. لا ما ادعيت أيها المعارض أن تفسيره: «إني دخلت على ربي في جنة عدن» كقول الناس: «أتيناك ربنا شعثا غبرا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا» هذا تفسير محال لا يشبه ما شبهت؛ لأن في روايتك أنه قال: «رأيته شابا جعدا في ثوبين أخضرين» ويقول أولئك: «أتيناك ربنا شعثا غبرا» أي: قصدنا إليك نرجو عفوك ومغفرتك، ولم يقولوا: أتيناك فرأيناك شابا جعدا في ثوبين أخضرين لتغفر لنا، هؤلاء قصدوا الثواب والمغفرة ولم يصفوا الذي قصدوا إليه بما في حديثك من الحلية والكسوة والمعاينة، فلفظ هذا الحديث بخلاف ما فسرت وتفسيرك أنكر من نفس الحديث، فافهم وأقصر عن شبه هذا الحديث فإن الخطأ كفر، وأرى الصواب فيه مصروفا عنك.