133 - ( فصل )
قال مهنا : سألت عن رجل أبا عبد الله ؟ قال : قد اختلفوا في هذا ، قلت : أخبرني ما تقول أنت فيه ؟ قال : يقرع بينهم ، فأيهم خرجت قرعته أعتق . [ ص: 267 ] قال : أول غلام لي يطلع فهو حر ، فطلع غلامان له : أو طلع عبيده كلهم
قال : وسألت عن رجل أبا عبد الله ؟ قال : قد اختلفوا في هذا أيضا ، قلت : أخبرني فيه بشيء ، فقال : قال بعضهم : يقسم بينهن تطليقة ، قلت : أخبرني فيه بقولك ، فقال : يقرع بينهن ، فأيتهن خرجت عليها القرعة طلقت . قلت : لفظ " الأول " يراد به ما يتقدم على غيره ، ويراد به ما لا يتقدم عليه غيره ، وعلى المعنى الأول : لا يكون أولا إلا إذا تبعه غيره وتأخر عنه ، وعلى المعنى الثاني : يكون أولا ، وإن لم يتأخر عنه غيره ، فيصح على هذا أن يقول : من لم يتزوج إلا امرأة واحدة ، أو لم يولد له إلا ولد واحد ، هذه أول امرأة تزوجتها ، وهذا أول مولود ولد لي . وعلى هذا إذا قال - وله أربع نسوة - أول امرأة تطلع فهي طالق ، فطلعن كلهن ، عتق ذلك الولد ، ولو قال : أول مولود تلدينه فهو حر ، فولدت ولدا ، ثم لم تلد بعده شيئا : عتق العبد المشترى ، وإن لم يشتر بعده غيره ، وإذا قال : أول مملوك أشتريه فهو حر ، فكل منهم صالح لأن يكون أول ، وليس اختصاص أحدهم بذلك أولى من الآخر ، فيخرج أحدهم بالقرعة فإنه لو طلع منهم واحد معين : لكان هو الحر والمطلقة ، فإذا طلع جماعة ، فالذي يستحق العتق والطلاق منهم واحد وهو غير معين ، فيخرج بالقرعة . قال : أول غلام يطلع لي فهو حر ، أو أول امرأة تطلع فهي طالق ، فطلع منهم جماعة
فإن قيل : إذا تساووا في الطلوع : لم يكن فيهم أول ، ولهذا يقال : لم يجئ أحدهم أول من الآخر ، فلم يوجد الشرط فلا يقع المعلق به ، وإن كان الجميع قد اشتركوا في الأولية : وجب أن يشتركوا في وقوع العتق والطلاق .
قيل : إن نوى وقوع العتق والطلاق - إذا اشتركوا في ذلك - وقع بالجميع وإنما كلامنا فيما ، فإذا اشترك جماعة في الصفة : وجب إخراج أحدهم بالقرعة ، فإن النية تخصص العام وتقيد المطلق ، فغاية الأمر : أن يقال : قد اشترك جماعة في الشرط ، ولكنه خصص بنيته واحدا . إذا نوى وقوع العتق والطلاق في واحد موصوف بالأولية
فإن قيل : فما تقولون فيما لو طلق ولم تكن له نية ؟ قيل : لو طلق ، فإنما يقع العتق والطلاق بواحد لا بالجميع ، لأنه قال : أول غلام يطلع ، وأول امرأة تطلع ، وهذا يقتضي أن يكون فردا من جملة ، لا مجموع الجملة ، فكأنه قال : غلام من غلماني ، وامرأة من نسائي ، يكون أول مستحق العتق والطلاق ، وكل واحد منهم قد اتصف بهذه الصفة ، وهو إنما أوقع ذلك في واحد : فيخرج بالقرعة .
ومن لا يقول بهذا ، فإما أن يقول : يعين بتعيينه ، وقد تقدم فساد ذلك ، وأن التعيين بما جعله [ ص: 268 ] الشارع طريقا للتعيين أولى من التعيين بالتشهي والاختيار . وإما أن يقال : يعتق الجميع ويطلق ، وهذا أيضا لا يصح ، فإنه إنما أوقع العتق والطلاق في واحد لا في الجميع ، وكلامه صريح في ذلك . وإما أن يقال : لا يعتق واحد ولا تطلق امرأة ، ولا يصح أيضا لوجود الوصف ، فإنه لو انفرد بالطلوع ، أو انفردت به لوقع المعلق به ، ومشاركة غيره لا تخرجه عن الاتصاف بالأولية ، فقد اشترك جماعة في الوصف ، والمراد واحد منهم ، فيخرج بالقرعة .
فإن قيل : فما تقولون فيما . قيل : يقرع بينهما ، فيما نص عليه في رواية لو قال : أول ولد تلدينه فهو حر ، فولدت اثنين لا يدري أيهما هو الأول ابن منصور ، قال : يقرع بينهما فمن أصابته القرعة عتق ، وهذا نظير أن يطلع أحدهما قبل الآخر ، ثم يشكل في مسألة التعليق بالطلوع .
فإن قيل : فلو ولدتهما معا ، بأن تضع مثل الكيس ، وفيه ولدان أو أكثر ؟ قيل يخرج أحدهما بالقرعة ، على قياس قوله في مسألة أول غلام يطلع لي فهو حر ، فطلعا معا .
قال في " المغني " : ويحتمل أن يعتقا جميعا ، لأن الأولية وجدت فيهما جميعا فثبتت الحرية فيهما ، كما لو ، فسبق اثنان : اشتركا في العشرة . قال في المسابقة : من سبق فله عشرة
وقال : يعتق أيهما شاء . إبراهيم النخعي
وقال : لا يعتق واحد منهما ، لأنه لا أول فيهما ، لأن كل واحد منهما مساو للآخر ، ومن شرط الأولية : سبق الأول ، قال : ولنا أن هذين لم يسبقهما غيرهما ، فكانا أولا كالواحد ، وليس من شرط سبق الأول : أن يأتي بعده ثان ، بدليل ما لو ملك واحدا ولم يملك بعده شيئا ، وإذا كانت الصفة موجودة فيهما فإما أن يعتقا جميعا ، أو يعتق أحدهما ، وتعينه القرعة على ما ذكرنا من قبل ، قال : وكذلك الحكم فيما لو قال : أول ولد تلدينه فهو حر ، فولدت اثنين وخرجا معا ، فالحكم فيهما كذلك . أبو حنيفة
134 - ( فصل )
فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا ، قال في " المغني " : ذكر الشريف : أنه يعتق الحي منهما ، وبه قال . أبو حنيفة
وقال ، أبو يوسف الشافعي : لا يعتق واحد منهما ، قال : وهو الصحيح إن شاء الله ، لأن شرط العتق إنما وجد في الميت ، وليس بمحل للعتق ، فانحلت اليمين به . ومحمد
قال : وإنما قلنا : إن شرط العتق وجد فيه ، لأنه أول ولد ، بدليل أنه لو عتقت . [ ص: 269 ] قال لأمته : إذا ولدت فأنت حرة ، فولدت ولدا ميتا
ووجه الأول : أن العتق مستحيل في الميت ، فتعلقت اليمين بالحي ، كما لو قال : إن ضربت فلانا فعبدي حر ، فضربه حيا عتق ، وإن ضربه ميتا ، لم يعتق ، ولأنه معلوم من طريق العادة : أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه ، وهو أن يكون حيا ، فتصير الحياة مشروطة فيه ، وكأنه قال : أول ولد تلدينه حيا فهو حر .
وقال صاحب " المحرر " : إذا قال : إذا ولدت ولدا ، أو أول ولد تلدينه ، فهو حر ، فولدت ميتا ثم حيا ، أو قال : آخر ولد تلدينه حر ، فولدت حيا ثم ميتا ، ثم لم تلد بعده شيئا ، فهل يعتق الحي ؟ . على روايتين ، وإن قال : أول ما تلده أمتي حر ، فولدت ولدين ، وأشكل السابق : عتق أحدهما بالقرعة ، فإن بان للناس الذي أعتقه أخطأته القرعة عتق ، وهل يرق الآخر ؟ على وجهين . قلت : مسألة الأول والآخر : مبنية على أصلين : أحدهما : أنه هل يسقط حكم الميت ، ويصير وجوده كعدمه ، لامتناع نفوذ العتق فيه ، أو يعتبر حكمه كحكم الحي ؟
الثاني : هل من شرط الأول : أن يأتي بعده غيره ، أو يكفي فيه كونه سابقا مبتدأ به ، وإن لم يلحقه غيره ؟ وأما مسألة تعليق الحرية على مطلق الولادة ، ففيها إشكال ظاهر .
فإن صورتها أن يقول : إذا ولدت ولدا فهو حر .
فإذا ولدت ميتا ثم حيا ، فإما أن نعتبر حكم الميت أو لا نعتبره ، فإن لم نعتبره عتق الحي ; لأنه هو المولود ، إن اعتبرناه وحكمنا بعتقه ، فكذلك ينبغي أن يحكم بعتق الحي ; لوجود الصفة فيه .
فإن قيل : " إذا " لا تقتضي التكرار ، وقد انحلت اليمين بوجود الأول ، وقد تعلق به الحكم ، فلا يعتق الثاني . قيل : هذا مأخذ هذا القول : لكن قوله " إذا ولدت ولدا " نكرة في سياق الشرط ، فيعم كل ولد ، وهو قد جعل سبب العتق الولادة ، فيعم الحكم من وجهين ، أحدهما : عموم المعنى والسبب ، والثاني : عموم اللفظ بوقوع النكرة عامة . وهذا غير اقتضاء النكرة التكرار ، بل العموم المستفاد من وقوع النكرة في سياق الشرط بمنزلة العموم في " أي " و " من " في قوله : أي ولد ولدته ، أو من ولدته ، فهو حر ، فهذا لفظ عام ، وهذا عام ، فما الفرق بين العمومين ؟
فإن قيل : العموم هاهنا في نفس أداة الشرط ، والعموم في قوله " إذا ولدت ولدا " في المفعول الذي هو متعلق فعل الشرط ، لا في أداته . [ ص: 270 ]
قيل : أداة الشرط في " من " و " أي " هي نفس المفعول الذي هو متعلق الفعل ; ولهذا نحكم على محل " من " بالنصب على المفعولية ، ويظهر في " أي " فالعموم الذي في الأداة لنفس المفعول المولود ، وهو بعينه في قوله : إذا ولدت ولدا ، اللهم إلا أن يريد التخصيص بواحد ، ولا يريد العموم ، فيبقى من باب تخصيص العام بالنية .
135 - ( فصل )
وقوله في مسألة ما إذا أشكل السابق " إنه بان أن الذي أعتقه : أخطأته القرعة : عتق " أي حكم بعتقه من حين مباشرته لا أنه ينشئ فيه العتق من حين الذكر ، فإن عتقه مستند إلى سببه ، وهو سابق على الذكر . وقوله : " هل يرق الآخر ؟ " على وجهين مأخذهما : أن القرعة كاشفة أو منشئة .
فإن قيل : إنها منشئة للعتق : لم يرتفع بعد إنشائه العتق عنه ، وإن قيل : إنها كاشفة رق الآخر ، لأنا تبينا خطأها في الكشف ، ولا يلزم من إعمالها عند استبهام الأمر وخفائه إعمالها عند تبينه وظهوره ، يوضحه : أن التبين والظهور لو كان في أول الأمر اختص العتق بمن يؤثر به ، فكذلك في أثناء الحال .
وسر المسألة : أن استمرار حكم القرعة مشروط باستمرار الإشكال ، فإذا زال الإشكال ، زال شرط استمرارها ، وهذا أقيس لكن يقال : قد حكم بعتقه بالطريق التي نصبها الشارع طريقا إلى العتق ، وإن جاز أن يخطئ في نفس الأمر ، فقد عتق بأمر حكم الشارع أن يعتق به ، فكيف يرتفع عتقه ؟ وعلى هذا : فلا يبعد أن يقال باستمرار عتقه ، وأن من أخطأته القرعة يبقى على رقه ; لأن مباشرته بالعتق قد زال حكمها بالنسيان والجهل ، والقرعة نسخت حكم المباشرة وأبطلته ، حتى كأنه لم يكن ، وانتقل الحكم إلى القرعة ، فلا يجوز إبطاله ، فهذا لا يبعد أن يقال ، والله أعلم .