جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلم في صلاة الفرائض 
الباب الأول في اختلاف العلماء فيما كان- صلى الله عليه وسلم- يتعبد به- بفتح الموحدة- قبل البعثة هل كان بشرع من تقدمه أم لا ؟  
قال العلامة ابن النفيس  في رسالة تتعلق بالنبي- صلى الله عليه وسلم- يجب أن يكون النبي سيدنا محمد-  صلى الله عليه وسلم- غير منتسب أولا إلى ملة غير ملته ، فلا يكون لا يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا ونحو ذلك؛ لأنه لو كان من أهل ملة- لكان عند دعواه النبوة دعا الناس إلى الدين الذي يحدثه كافرا عند تلك الملة؛ لأنه قد يكون خرج عن دينهم فيكون عندهم مبتدعا كافرا ، وذلك مما يدعوهم إلى تنفير الناس عنه حتى ولو كان مقررا لدين تلك الملة ، كما جرى بعيسى-  عليه السلام- مع اليهود ،  فكيف إذا نسخ دين تلك الملة وبدله ؟ فلذلك يجب أن يكون خاتم النبيين ليس منسوبا في أول أمره إلى ملة أخرى . 
وقال القاضي :  قد اختلف في حال نبينا- صلى الله عليه وسلم- قبل العلم بأنه رسول الله ، وقبل أن يوحى إليه ، هل كان متبعا إلى عبادة ربه بشرع من شرائع الأنبياء قبله أم لا ؟ .  
قال الجمهور : القاضي أبو بكر الباقلاني  وغيره من المحققين : لم يكن- صلى الله عليه وسلم- متعبدا قبل البعثة بشرع من قبله .  [ ص: 71 ] 
واحتجوا بأن طريق العلم بكونه- صلى الله عليه وسلم- متبعا في عبادة ربه قبل أن يوحى إليه بشرع النقل هو توارد الخبر على ألسنة النقلة إلينا ، وحجته : أنه لو كان ذلك قد وقع لنقل إلينا ، ولو كان لنقل ذلك ، ولما أمكن كتمه وستره في العادة؛ إذ كان نقله وعدم كتمه من مهم أمره وأولى ما احتفل به لكونه من سيرته ، ولقال به أهل تلك الشريعة ، ولاحتجوا عليه ولم يؤثر شيء من ذلك؛ فعلم أنه لم يكن ، وأيضا لو كان متبعا لشرع من قبله لفخر به أهل تلك الشريعة ولاحتجوا باتباعه شريعة من قبله ، حتى ادعى النبوة ، ولم يرو شيء من ذلك أصلا . 
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا ، قالوا : لأنه يبعد مع حكم العقل أن يكون متبوعا من علم من الأزل كونه تابعا له- صلى الله عليه وسلم- إذ الأنبياء مأمورون بالإيمان به والنصرة له ، كما في قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه   [آل عمران 81] بنوا قولهم بامتناع اتباعه- صلى الله عليه وسلم- شرعا قبل أن يوحى إليه ، على طريقة التحسين والتقبيح العقليين ، وهي طريقة غير سديدة ، لبعد مسافتها من مأخذ الشرع ، ورفع قواعدها من شفا جرف هار . 
والتعليل الأول؛ وهو الاستناد إلى النقل أولى وأظهر . 
وذهبت طائفة : منهم  إمام الحرمين ،   والغزالي ،  والآمدي ،  إلى الوقفة في أمره- صلى الله عليه وسلم- وجنحوا إلى ترك قطع الحكم فلم يحكموا عليه بشيء؛ إذ لم يحل لوجهين منهما العقل لتساويهما عنده في الإمكان ، ولاستبان عند هذه الطائفة القائلين بالوقف في أحد الوجهين طريق النقل ، لعدم تساويهما في الإمكان؛ فلم يكن أحدهما أولى بترجيح على الآخر . 
وذهبت طائفة أخرى إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- كان عاملا قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله لبعد أن يكون متعبدا بغير شرع قبل بعثته ،  ثم اختلفت هذه الطائفة الثالثة : هل يتعين ذلك الشرع الذي زعموا أنه كان قبل أن يبعث عاملا به أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه ، وأحجم- أي نكص فهمه وهاب الجزم بتعيينه لفقد ما يجسره عليه ، وجسر بعضهم على التعيين وصمم عليه . 
ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة ، فيمن كان- صلى الله عليه وسلم- يتبع دينه من الأنبياء ، ويتعبد به قبل أن يبعث .  
فقيل : آدم .  وهو محكي عن ابن برهان ،  وقيل : نوح ،  وقيل : موسى .  وقيل : عيسى-  صلى الله وسلم عليهم- فهذه جملة المذاهب في مسألة تعبده- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث ،  والأظهر ما ذهب إليه القاضي  ومن تبعه ، وبعدها مذهب المعينين؛ إذ لو كان شيء من ذلك لنقل إلينا ، وأحطنا به خبرا ، ولم يخف على أحد ، ولا حجة لهم من أن عيسى-  صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء؛ فلزم .  [ ص: 72 ] 
شريعته من كان بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى- صلى الله عليه وسلم- فلا يلزم شريعته من جاء بعدها لعدم أمرهم باتباعها ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- دعوة عامة لكافة الناس إلا لنبينا-  صلى الله عليه وسلم . 
وأما من قال : إنه- صلى الله عليه وسلم- كان على شريعة إبراهيم  وليس له شرع متعبد به ،  وأن المقصود من بعثته- صلى الله عليه وسلم- إحياء شرع إبراهيم-  صلى الله عليه وسلم- وعول في إثبات مذهبه على قوله تبارك وتعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا   [النحل 123] فهذا قول ساقط مردود ، ولا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع . 
وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد . لأنه لما وصف إبراهيم  عليه الصلاة والسلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : اتبع؛ كان المراد ذلك . 
ولا حجة أيضا للقائل باتباعه شرع نوح-  صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك   [الشورى 13] فحمل هاتين الآيتين ، على اتباعهم في التوحيد؛ لأنه لما وصف إبراهيم  في الآية الأولى- بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال : أن اتبع ، كان المراد بذلك ، بشهادة تفسير المشرع في الآية الثانية الذي اشترك فيه هؤلاء الأعلام من الرسل ، بقوله تعالى : أن أقيموا الدين  أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد الله تعالى ، وطاعته ، والإيمان به وبرسله وكتبه وبيوم الجزاء ، وسائر ما يكون به المكلف مكلفا إلا المشروع الذي هو مصالح الأمم لاختلاف أحوالهم وتفاوتها المؤذن به قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا   . وقوله تعالى : أولئك  أي الذين ذكروا من الرسل وغيرهم هدى الله فبهداهم  أي بطريقتهم لا بطريقة غيرهم ، بشهادة الإضافة في الإيمان بالله وتوحيده ، وأصول الدين اقتده  دون الشرائع؛ لاختلافها ، وهي هدى ما لم تنسخ ، فإذا نسخت لم تبق هدى . 
بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبدا ، وقد سمى الله تعالى في آية الأنعام في الأنبياء- صلى الله عليهم وسلم- من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب-  صلى الله عليه وسلم- وعلى آبائه على قولة من يقول : إنه ليس برسول . 
فدل الأمر باقتدائه بهداهم ، أن المراد به أصول الشرائع لا الشرائع نفسها . وسمى جماعة من الأنبياء فيها شرائعهم مختلفة ، لا يمكن الجمع بينها؛ فدل اختلافها أن المراد بهداهم ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى . 
قال القاضي :  وهل يلزم من قال : يمنع إتباعه- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه بشرع قبله هذا القول في سائر الأنبياء ، فلا يكون أحد منهم قبل أن يوحى إليه بشرع قبله غير نبينا- صلى الله عليه وسلم- أو  [ ص: 73 ] 
يخالفون بينهم فيه قبل أن يوحى إليهم أما من منع الاتباع عقلا ، فيطرد أصله الذي هو منع عقلا في كل رسول بلا مزية . 
وأما من مال إلى النقل كالقاضي أبي بكر  فأيهما تصور له وتقرر تبعه وعمل بمقتضاه . 
ومن قال بالوقف فعلى أصله من الإحجام عن تعيين . 
ومن قال بوجوب الاتباع قبل الوحي لمن قبله من الأنبياء يلزمه سياق حجته وإجراؤها في كل نبي ، وأوضح بعضهم كلام القاضي  في قوله تعالى : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا  بأن المراد بهذه الآية : الاتباع في التوحيد كما تقدم؛ لأنه تعالى لما وصف إبراهيم  في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين دل على أن المراد بالاتباع ذلك . 
فإن قيل : أن النبي- صلى الله عليه وسلم- إنما نفى الشرك ، وأثبت التوحيد؛ بناء على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد فيمتنع حمل قوله : اتبع  على هذا المعنى ، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها . 
أجاب الإمام فخر الدين الرازي  بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد ، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة ، على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن . 
وقد قال صاحب الكشاف ما لفظه : ثم في قوله تعالى : ثم أوحينا إليك  تدل على تعظيم منزلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإجلال محله ،  بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة ، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ملته من قبل أن هذه اللفظة دلت على تباعد النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله تبارك وتعالى بها . انتهى . 
ومراده بالمدائح المذكورة في قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين  شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم  وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين   . 
وقد تقدم لهذا مزيد بيان في الباب السادس . 
قال شيخ الإسلام أبو زرعة العراقي  في شرح تقريب والده على كلامه عند حديث بدء الوحي : وليت شعري كيف تلك العبادة ، وأي أنواعها هي ، وعلى أي وجه فعلها يحتاج ذلك إلى نقل ولا أستحضره الآن . 
وقال شيخه شيخ الإسلام البلقيني  في شرح  البخاري :  لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده- صلى الله عليه وسلم- لكن روى  ابن إسحاق  وغيره أنه- صلى الله عليه وسلم- «كان يخرج إلى حراء  في  [ ص: 74 ] 
كل عام شهرا من السنة ينتسك فيه ، وكان من نسك قريش  في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة .  
وحمل بعضهم التعبد على التفكر وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع ، وهي : الانعزال عن الناس كما صنع إبراهيم-  صلى الله عليه وسلم- باعتزاله قومه ، والانقطاع إلى الله تعالى . 
«فإن انتظار الفرج عبادة ، كما رواه  ابن أبي الدنيا  عن  علي بن أبي طالب-  رضي الله تعالى عنه- مرفوعا . 
وليضم إلى ذلك الأذكار» . 
وعن بعضهم «كانت عبادته- صلى الله عليه وسلم- في حراء   التفكر . انتهى» . 
قلت : وبهذا الأخير جزم سيدي أبو السعود  كما رواه عنه في الزهر وقاله تلميذه الحافظ  رحمه الله تعالى .  [ ص: 75 ] 
				
						
						
