الباب السادس في حكم عقد قلب النبي- صلى الله عليه وسلم- من وقت نبوته كغيره من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
«مكث بمكة خمس عشرة يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين ولا يرى شيئا ، وثمان سنين يوحى إليه ، وهذا على أنه عاش خمسا وستين سنة ، والصحيح أنه عاش ثلاثا وستين سنة .
وروى عن البيهقي عمرو بن شراحبيل أنه- عليه الصلاة والسلام- قال لخديجة : «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء [وقد خشيت- والله- أن يكون هذا الأمر]» .
تنبيهات
الأول : قال القاضي : هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- ولكن ليطمئن قلبي [البقرة 260]
وقول نبينا- صلى الله عليه وسلم- إبراهيم » - صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من
- ليس اعترافا منه بالشك لهما- صلى الله عليه وسلم- بل هو نفي له لأن يكون إبراهيم شك وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا بإبراهيم ، أي : نحن موقنون بالبعث وإحياء الله الموتى ، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه .
الثاني : فإن قلت فما معنى قوله تعالى : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك [يونس 94] الآية قال القاضي : واختلفوا في معنى الآية ، فقيل : المراد قل : يا محمد للشاك .
قالوا : وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل ، وهو قوله تعالى : قل يا أيها الناس أي أهل مكة إن كنتم في شك من ديني [يونس 104] الآية .
وقيل : الخطاب للعرب وغير ذلك ، والمراد غير النبي- صلى الله عليه وسلم- قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [الزمر 65] الخطاب له والمراد غيره .
ومثله فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء [هود 109] أي : لا يشك في أن عبادتهم عند الله ضلال ، ونظيره كثير قال بكر بن العلاء : ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله [يونس 95] وهو- صلى الله عليه وسلم- كان المكذب- بفتح الذال- فيما يدعو إليه ، فكيف يكون هو المكذب- بكسرها- أي : فكيف يكذب نفسه المذكور .
وقيل : مثل هذه الآية قوله تعالى الرحمن فاسأل به خبيرا [الفرقان 59] الخبير المسؤول ، لا المستخبر السائل .
الثالث : فإن قيل : فما معنى
ما رواه عن مسلم الأغر المزني
قال : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» . أنه- عليه الصلاة والسلام . [ ص: 462 ]
وفي رواية عن للبخاري - رضي الله تعالى عنه- : أبي هريرة . فأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة
قال القاضي : أي : لنزاهته عن قبول الوسوسة : لأن قابلها وهي العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان من ابن فاحذر أن يكون هذا الغين وسوسة أو ريبا وقع في قلبه- صلى الله عليه وسلم- آدم استخرجها جبريل من قلبه حين شق صدره الشريف ، بل المراد أصل الغين ما يتغشى القلب ويغطيه ، قاله . أبو عبيد
وقال غيره : الغين شيء يغشي القلب ولا يغطيه كل التغطية . «كالشفاف» و «الغيم» الرقيق الذي لا يمنع ضوء الشمس ، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه ، وفترات نفسه ، وسهوها عن مداومة الذكر ، ومشاهدة الحق بما كان- صلى الله عليه وسلم- دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ، ومعاناة الأهل ، ومقاومة الولي والعدو ، ومصلحة النفس وكلفة من أعباء- أي :
ثقل- أداء الرسالة وحمل الأمانة ، وهو في كل هذا في طاعة ربه وعبادة خالقه ، ولكن لما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- عند الله أرفع الخلق مكانة وأعلاهم درجة وأتمهم به معرفة ، وكانت حاله عند خلوص قلبه ، وخلو همته وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه ، ومقامه هنالك أرفع لديه رأى- صلى الله عليه وسلم- حال فترته عنها ، وشغله بسواها غضا من علي حاله ، وخفضا من رفيع مقامه ، فاستغفر من ذلك .
واحذر أن تفهم من الحديث أنه يغان على قلبه- صلى الله عليه وسلم- مائة مرة ، وإنما هو عدد للاستغفار ، وقد يكون الغين هنا هو السكينة التي تتغشاه لقوله تعالى فأنزل الله سكينته عليه [التوبة 40] ويكون استغفاره صلى الله عليه وسلم عندها ، إظهارا للعبودية والاستغفار وقال ابن عطاء : استغفاره وفعله هذا تعريف للأمة بحملهم على الاستغفار .
ويحتمل أن هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيطمئن لها ، فيستغفر حينئذ شكرا لله تعالى وملازمة لعبوديته كما
قال- صلى الله عليه وسلم-[في ملازمة العبادة] «أفلا أكون عبدا شكورا»
. [ ص: 463 ]