تنبيهات
الأول : الأمراض نوعان :
أمراض مادية : تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أخرت أفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها : إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، وإملاء الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتياده ذلك ، أورثته أمراضا متنوعة ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلا في كميته وكيفيته ، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاث : [ ص: 107 ] أحدها : مرتبة الحاجة .
والثانية : مرتبة الكفاية .
والثالثة : مرتبة الفضلة ، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضعف معها ، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطن ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثلث للنفس ، وهذا أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ، ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ، ضاق عن النفس ، وعرض عليه الكرب والتعب بحمله ، بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقل من الغذاء لا بحسب كثرته ، ومن تأمل هديه -صلى الله عليه وسلم- وجده أفضل هدي لحفظ الصحة ، فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والاستفراغ والاحتباس .
الثاني : كان -عليه الصلاة والسلام- إذا عاف طعاما لم يأكله ، ولم يكره نفسه عليه ، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة ، وكان يحب اللحم ، ويحب من الذراع؛ لأنه أخف على المعدة ، وأسرع انهضاما ، وكذلك لحم الرقبة والعضد ، وكان يحب الطواء والعسل ، وهذه الثلاثة من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفر منها إلا من به علة أو آفة ، وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يحتمي عنها ، وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإن الله- تعالى- بحكمته جعل في كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته ، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية إذا لم يسرف في تناولها ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها ، وتناول الغذاء بعد التخلي منها ، فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي كانت له دواء نافعا ، وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو أسقم الناس وأبعدهم من الصحة والقوة .
ولم يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ، ولا طبيخا بايتا يسخن له بالغد ، ولا جمع قط بين غذاءين ، وكان يأكل متوركا على ركبتين ، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى ، وهذه الهيئات أنفع هيئات الأكل وأفضلها؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي ، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاء على الجنب؛ فإنه يمنع مجرى الطعام على هيئته ، ويعوقه عن سرعة تعوده إلى المعدة ، ولذا
قال -عليه الصلاة والسلام- : «لا آكل متكئا» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي فإنه يمنع مجرى الطعام ويعوقه على سرعة نفوذه إلى المعدة ، وقد نهى عن وابن ماجه؛ عن الأكل منبطحا ، ابن عمر عن والحاكم [ ص: 108 ] علي .
الثالث : قال ابن القيم : وأما فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة ، فإن الماء إذا جمع وصفي مع الحلاوة والبرودة كان من أنفع شيء للبدن ، ومن أكبر أسباب الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوبته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق ، وإذا كان باردا أو خالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن ويحفظ عليه صحته ، والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء ، والبائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، فإن الماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي يشرب لوقته بمنزلة الفطير . هديه -عليه الصلاة والسلام- في الشراب
وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- لأن الشرب قاعدا؛ [منها أنه لا يحصل به الري التام ، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء] فينزل بسرعة واحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها ، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج ، وكل هذا يضر بالشارب ، وأما الشرب منبطحا فالأطباء تكاد تحرمه ويقولون : لأنه يضر بالمعدة . في الشرب قائما آفات عديدة ،
وكان من وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة ، وقد نبه -عليه الصلاة والسلام- على مجامعها؛ لقوله : هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه يشرب في ثلاثة أنفاس ، «إنه أروى وأمرأ وأبرأ» .
وكان -عليه الصلاة والسلام- يشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة ، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظه الصحة .
وكان يشرب اللبن خالصا تارة ، ومشوبا بالماء أخرى ، وله نفع عظيم في حفظ الصحة ، وترطيب البدن ، وري الكبد ، ولا سيما اللبن الذي يرعى دوابه القيصوم والخزامى وما أشبهها؛ فإن لبنها غذاء من الأغذية ، وشراب مع الأشربة ، ودواء مع الأدوية .
وكان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد ، وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء ، فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ، ويجلو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ويسخنها ، ويفتح سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته ، ودفع مضرته بالخل ، قوله «فإنه أروى» : أشد ريا فأبلغه وأنفعه ، وأبرأ : أفعل من البرء وهو الشفاء ، أن يبرأ من شدة العطش ودائه؛ لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما [ ص: 109 ] عجزت الأولى عن تسكينه ، والثالثة ما عجزت عنه الثانية ، وأيضا ، فإنه أسلم لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ، فيطفئ الحرارة الغريزية ، ويؤدي إلى فساد مزاج المعدة والكبد ، وإلى أمراض رديئة .
وقوله : «وأمرأ» : بميم بعد الهمزة ، أي : ألذ وأنفع ، وقيل : أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه .
ومن أنه يخاف منه الشرق؛ لأن الشارب إذا شرب تصاعد البخار الدخاني الحار الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فإذا أدام الشرب اتفق نزول الماء وصعود البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدث الشرق ولا يهنأ الشارب ولا يتم ريه ، وقد علم بالتجربة أن ورود الماء على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- : آفات الشرب دفعة واحدة «أصل الكباد من العب» .
قال في المنهج السوي : الكباد بضم الكاف وتخفيف الباء . وجع الكبد .