تنبيهات
الأول : قال السيد نور الدين السمهودي في «تاريخ المدينة» : وإن صح ما قاله فالقبر الشريف له به علاقة روحانية ، وله نسبة إليه مع أنا قطعنا بوصفه- صلى الله عليه وسلم- به فنستصحبه؛ حتى يقوم قاطع على خلافه وساق ما أخبر به سعيد بن المسيب من سماعه الأذان والإقامة من القبر أيام الحرة مع أنه قد جاء عن غير ابن المسيب؛ ما يقتضي الاستمرار ، فقد قال ابن المسيب أيام حصاره : لن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها . عثمان بن عفان
وروى بسند جيد عن ابن عساكر أنه لما نزل ب «داريا» من أرض بلال الشام رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول : ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني ؟ ! فانتبه حزينا خائفا ، فركب راحلته وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين ، فجعل يضمهما ويقبلهما ، فقالا : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المسجد ، فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلما أن قال :
الله أكبر ، ارتجت المدينة؛ فلما أن قال :
أشهد أن لا إله إلا الله؛ ازدادت رجتها ، فلما أن قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهن ، وقالوا : بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ذلك اليوم . [ ص: 360 ]
وقال الإمام العلامة جمال الدين محمود بن جملة : واستمرت تلك الحياة إلى الآن ، وهي مستمرة إلى يوم القيامة ، وليس هذا خاصا به- صلى الله عليه وسلم- بل يشاركه الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- أجمعين . نبينا- صلى الله عليه وسلم- أحياه الله تعالى بعد موته حياة تامة ،
والدليل على ذلك أمور كثيرة :
أحدها : قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران : 169] فقيل : وجه الدلالة منها من ثلاثة أوجه :
الأول : أن وللشهداء بذلك مزية على غيرهم ممن ليس بشهيد ، فما لهم أفضل ممن لم يكن له هذه المرتبة ، ولا يكون رتبة أحد من الأمة أعلى درجة من رتبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا ثوابه أكمل ولا حاله أحسن . الحياة في البرزخ حاصلة لآحاد الأمة من الشهداء ،
الثاني : أن الذين قتلوا في سبيل الله إنما استحقوا هذه الرتبة بالشهادة ، والشهادة حاصلة له- صلى الله عليه وسلم- على أتم الوجود وأكملها؛ لأن الشهيد سمي شهيدا؛ إذ الشهادة الموت أو الشهادة لله أو الشهادة على الناس يوم القيامة ، أو لمشاهدة ثواب الله- عز وجل- ، أو لمشاهدة ملائكته ، وهذه الرتبة للنبي- صلى الله عليه وسلم- أكمل من الأمة وأعلاها الشهادة لله تعالى والشهادة على الناس وشهادة النبي- صلى الله عليه وسلم- أسمى وأعظم؛ فإنه- صلى الله عليه وسلم- شهد على الشهداء؛ قال الله تعالى :
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة : 143] فإن توهم متوهم أن هذا من خصائص القتلى ، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك كما بيناه في باب أن الله تعالى اختار له مع النبوة الشهادة في أبواب الوفاة فراجعه .
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي : صاحب «العمدة» المشهورة في جواب سؤال ما نصه : سألت : - أحسن الله لنا ولك التوفيق لم يحب ويرضى عن صلاة نبينا وسيدنا المصطفى المرتضى سيد الخلق في الآخرة ، والأولى بإخوانه النبيين والمرسلين ، هل صلى بأجسادهم أم بأرواحهم ، فاعلم- رحمك الله- أن مذهب أهل الحق القائلين بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[إن الإسراء كان برسول الله- صلى الله عليه وسلم-] بجسده وروح يقظة لا مناما ، فقد ورد به القرآن العزيز وورد به الخبر الصحيح ، قال الله سبحانه وتعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام [الإسراء : 1] الآية ، وتواترت الأخبار الصحيحة بذلك .
قال : فإن ثبت هذا ، فاعلم أن [ ص: 361 ] الأنبياء أحياء في قبورهم .
روي حديث أوس بن أوس قال : وهو حديث حسن صحيح ، أخرجه أبو داود وجماعة ، وقد روى والنسائي عن مسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : أنس «مررت ليلة أسري بي على موسى ، وهو قائم يصلي في قبره» .
وهذا من صفة الأجساد لا من صفة الأرواح .
قال : وفي حديث حسن في الإسراء أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : فدخلت المسجد ، فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد ، وقد صح في أحاديث كثيرة أن آدم وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم- قالا له : مرحبا بالأخ الصالح ، وصح أنه لما لقي موسى وجاوزه بكى موسى وقد وصف- صلى الله عليه وسلم- الأنبياء ، فقال : رأيت موسى قائما يصلي ، كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى قائما يصلي كأنه عروة بن مسعود الثقفي ، وأما إبراهيم فأشبه الناس بصاحبكم- يعني نفسه- صلى الله عليه وسلم- وهذه صفة الأجساد لا صفة الأرواح ، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لما لقي موسى بعد أن فرض الله عليه خمسين صلاة ، فقال له : إني جربت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، ففعل ذلك مرارا إلى أن أمره الله بخمس صلوات .
ومحال أن يكون هذا الخطاب من روح موسى دون جسده ، والقائل بذلك مخالف للنقل والعقل ، ونمنع أن يراهم في أجسادهم ويصفها ، ويخاطبهم ويخاطبونه ، ثم يصلي بالأرواح دون الأجساد ، الدعاء . والصلاة في اللغة :
وفي الشريعة : عبارة عن القراءة مع القيام والركوع والسجود .
وقيام الأرواح وقعودها وقراءتها غير مدرك ولا معقول ولا منقول ، فتبارك الذي خص محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه . فإن قال قائل : كيف صلى بهم في بيت المقدس ثم رآهم في السماء ؟
فنقول ، وبالله التوفيق : إن الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماء إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى ، ثم رجع إلى مكة قبل الصبح؛ هو الذي أراه إياهم كيف يشاء وجمعهم له أين يشاء ، فسبحان الذي لا يحاط بقدرته ، ولا تنتهي عظمته ، ولا تدرك حقيقته وهو على كل شيء قدير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، انتهى كلام الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله .
وفي صحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : مسلم . إن إبراهيم ابني مات ، وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة
ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة ، وأن تكملة الرضاع إنما هو في الدنيا ، وإذا كان هذا في حق ولده- صلى الله عليه وسلم- كرامة له؛ فلأن يثبت في حقه الحياة- صلى الله عليه وسلم- بطريق أولى .
وروى بسند صحيح أن أبو داود الطيالسي لما مات إبراهيم : إن له مرضعا في الجنة . [ ص: 362 ] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال :
فقد تبين لك- رحمك الله من الأحاديث السابقة- حياة النبي وسائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله سبحانه وتعالى في الشهداء : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [آل عمران : 169] والأنبياء أولى بذلك؛ فهم أجل وأعظم ، وقل نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة ، فيدخلون في عموم لفظ الآية ، فثبت كونه - صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره بنص القرآن إما من عموم اللفظ وإما من مفهوم الموافقة .
الثاني : إن قيل : إن قوله- صلى الله عليه وسلم- : «إلا رد الله إلي روحي» ؛ يقتضي مفارقة الروح لبدنه الشريف في بعض الأوقات ، وذلك لا يلتئم مع كونه حيا على الدوام .
وقال الشيخ الإمام العلامة علاء الدين القونوي الشافعي في «آداب البحث» له : ظاهرة رد روحه- صلى الله عليه وسلم- عند سلام أول من سلم عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته ، ثم إما أنه أن يقال : باستمرار حياته بعد ذلك ، وبقاء روحه المباركة في جسده الشريف ، كما كان قبل ، وهو المدعى ، ويحسن على هذا أن يقدر في حديث لفظة «قد» بعد أداة الاستثناء حتى يكون المعنى : ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي . انتهى .
وهذا أحد الأجوبة . قاله . البيهقي
وبهذا جزم الإمام العلامة جمال الدين محمود بن جملة خطيب الجامع الأموي في كتاب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- : وهو كتاب جليل ، ولم يطلع عليه شيخنا رحمه الله تعالى ، وقد أوضح الشيخ بلك في «فتاويه» قبل الوقوف على كلام فقال في فتاويه : إن قوله : «رد الله تعالى» جملة حالية . وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا ماضيا قدرت فيها «قد»؛ كقوله تعالى : البيهقي ، أو جاءوكم حصرت صدورهم [النساء : 90] أي قد حصرت ، وكذا هنا تقدر الجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد «وحتى» ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بمعنى «الواو» فصار تقدير الحديث : ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك وأرد عليه ، وإنما جاء الإشكال من ظن أن جملة «رد الله» بمعنى الحال أو الاستقبال ، وظن أن «حتى» تعليلية ، وليس كذلك . وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله .
قال : ثم بعد ذلك رأيت الحديث مخرجا في كتاب «حياة الأنبياء» للبيهقي بلفظ : «إلا وقد رد الله علي روحي» فصرح فيه بلفظ «قد» ، ورواية إسقاطها محمولة على إضمارها ، وأن حذفها من تصرف الرواة ، ومراد الحديث الإخبار بأن الله تعالى يرد إليه روحه بعد الموت فيصير حيا على الدوام حتى لو سلم عليه أحد رد عليه سلامه لوجود الحياة فيه ، فصار الحديث موافقا للأحاديث الواردة في حياته في قبره ، ويؤيده من حيث المعنى أن الرد لو أخذ بمعنى الحال أو الاستقبال لزم تكراره عند تكرر المسلمين ، وتكرر الرد يستلزم تكرار المفارقة ، وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران . [ ص: 363 ]
أحدهما : تألم الجسد الشريف بتكرر خروج الروح منه ، أو نوع ما من مخافة التكرار إن لم يكن تأليما .
والآخر : مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم ، فإنه لم يثبت لأحد منهم أنه يتكرر له مفارقة الروح وعودها إلى البرزخ ، والنبي - صلى الله عليه وسلم- أولى بالاستمرار الذي هو أعلى مرتبة .
ومحذور ثالث : وهو مخالفة القرآن؛ فإنه دل على أنه ليس إلا موتة وحياتان ، وهذا التكرير يستلزم موتات كثيرة؛ وهو باطل . انتهى .
ثم قال القونوي : وإما أن يقال : يردها عند سلام المسلم الأول ، ثم قبضها بعد ذلك ، ثم ردها عند مسلم آخر ، وهكذا كلما سلم عليه المسلمون ، وهذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز اعتقاده أيضا ، فإنه يفضي إلى توالي موتات لا تحصى ورد الروح مرات لا تحصى ، فإن كل مصل يسلم عليه في صلاته مرة أو مرتين وغير المصلي أيضا يسلم عليه ، ويختلف أوقات سلامهم فلا يخلو ساعة من الساعات من سلام عليه ، ولا يخفى ما في التزام تكرار الرد بتكرار ذلك المحذور ، فتعين القول بردها عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد موته مرة واحدة لرد السلام على المسلم الأول واستمرار الحياة بعد ذلك إلى يوم القيامة فيكون النبي- صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره ، ثم أيد ذلك بما رواه عن مسلم مرفوعا ، أنس رأيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلي في قبره .
الجواب الثاني : قال السبكي : يحتمل أن يكون ردا معنويا ، وأن تكون روحه الشريفة مستقلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم ، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم فيدرك سلام من سلم عليه ، أو يرد عليه .
الثالث : قال الشيخ : إن لفظ «الرد» قد لا يدل على انفكاك المفارقة : بل كنى به عن مطلق الصيرورة كما قيل في قوله تعالى حكاية عن شعيب- عليه الصلاة والسلام- : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم [الأعراف : 89] إن لفظ العود أريد به مطلق الصيرورة لا العود بعد الانتقال؛ لأن شعيبا- عليه الصلاة والسلام- لم يكن في ملتهم قط ، وحسن استعمال هذا اللفظ في هذا الحديث مراعاة للمناسبة اللفظية بينه وبين قوله : «حتى أرد عليه السلام» في لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث .
الرابع : قال الشيخ : ليس المراد برد الروح عودها بعد المفارقة للبدن ، وإنما النبي- صلى الله عليه وسلم- في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهدة ربه كما كان في الدنيا في حاله بالوحي ، وفي أوقات أخر ، فعبر عن إفاقته من تلك المشاهدة ، وذلك الاستغراق برد الروح ، ونظير هذا قول العلماء في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء لم يكن [ ص: 364 ] مناما ، وإنما المراد الإفاقة مما خامر من عجائب الملكوت .
قلت : وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحنكه ، فوضعه على فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتغل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحديث مع الناس ، فرفع أبو أسيد ابنه ، ثم استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يجد الصبي ، فسأل عنه ، فقالوا : رفع؛ فسماه الراوي استيقاظا .
وفي حديث في ذهاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى عائشة الطائف؛ فكذبوه ، قال : فرجعت مهموما ، فلم أستفق إلا بـ «قرن الثعالب»؛ أي : أفاق مما كان فيه ، والله تعالى أعلم .
الخامس : قال الشيخ : إن الرد للروح يستلزم الاستمرار؛ لأن الزمان لا يخلو ممن يصلي عليه في أقطار الأرض .
السادس : قد يقال : أوحى الله إليه بهذا الأمر أولا قبل أن يوحى إليه؛ فإنه لا يزال حيا في قبره ، فأخبره به ، أوحى إليه بعد ذلك فلا منافاة بتأخير الخبر الثاني عن الأول .
قلت : وهذا يحتاج إلى نقل ، والله تعالى أعلم .
السابع : قال الشيخ تاج الدين الفاكهاني في كتابه «الفجر المنير [فيما فضل به البشير النذير» ] : المراد بالروح هنا النطق مجازا ، فكأنه- صلى الله عليه وسلم- قال : إلا رد الله إلي نطقي ، وهو حي على الدوام ، لكن لا يلزم من حياته نطقه ، فالله سبحانه وتعالى يرد عليه النطق عند سلام كل مسلم ، وعلاقة المجاز أن النطق من لازمه وجود الروح ، كما أن الروح من لازمه وجود النطق بالفعل والقوة ، فعبر- عليه الصلاة والسلام- بأحد المتلازمين عن الآخر ، وفي تحقيق ذلك أن عود الروح لا يكون إلا مرتين عملا بقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [غافر : 11] قال الشيخ رحمه الله تعالى : في كلامه أمران :
أحدهما : أنه عزى الحديث للترمذي ، وإنما رواه . أبو داود
الثاني : ظاهر كلامه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مع كونه حيا في البرزخ يمنع عنه النطق في بعض الأوقات ، ويرد عليه عند سلام المسلم عليه ، وهذا بعيد جدا ، بل ممنوع؛ فإن العقل والنقل يشهدان بخلافه .
أما النقل؛ فإن الأخبار الواردة عن حاله وحال الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- في البرزخ مصرحة بأنهم ينطقون كيف يشاءون لا يمنعون من شيء ، بل وسائر المؤمنين كذلك ، والشهداء وغيرهم ينطقون في البرزخ بما شاءوا غيره من شيء ، ولم يرد أن أحدا يمنع من النطق في البرزخ إلا من مات عن غير وصية .
وروى أبو الشيخ في كتاب «الوصايا» : عن ابن حبان قيس بن قبيصة قال : قال [ ص: 365 ] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى ، قيل : يا رسول الله ، وهل نكلم الموتى ؟ قال : «نعم» .
قال السبكي : ويشهد له صلاة حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدنيا ، موسى في قبره ، فإن الصلاة تستدعي جسدا جيدا ، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء ، كلهم صفات الأجسام ، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب ، وأما الحركات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى ، وأما العقل ، فلأن الحبس عن النطق في بعض الأوقات فيه نوع حصر وتعذيب ، ولهذا عذب به تارك الوصية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم- منزه عن ذلك ، ولا يلحقه بعد وفاته حصر أصلا بوجه من الوجوه كما قال رضي الله تعالى عنها- : في مرض وفاته : لفاطمة- «لا كرب على أبيك بعد اليوم» .
وإذا كان الشهداء وسائر المؤمنين من أمته إلا من استثنى من المعذبين لا يحصرون بالمنع من النطق ، فكيف به- صلى الله عليه وسلم- ؟ !
فائدة :
لفظ الحديث الذي سقناه لفظ . البيهقي
ولفظ «إلا رد الله علي» . أبي داود
قال الشيخ : ورواية ألطف وأنسب ، فإن بين التعديتين فرقا لطيفا ، فإن رد يعدى ب «على» في الإهانة وب «إلى» في الإكرام . البيهقي
قال في «الصحاح» : رد عليه الشيء إذا لم يقبله ، وكذا إذا خطأه ، وتقول : رده إلى منزله ورد إليه جوابا؛ أي رجع .
وقال : من الأول قوله تعالى : الراغب يردوكم على أعقابكم [آل عمران : 149] ونرد على أعقابنا [الأنعام : 71] ومن الثاني : فرددناه إلى أمه [القصص : 13] ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [الكهف : 36] ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة [التوبة : 94] ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام : 62] .
وذكر الشيخ- رحمه الله تعالى- أجوبة كثيرا؛ فليراجعها من أرادها من فتاويه .
قلت : وأقوى الأجوبة الأول ، ونكتته الثالث والرابع .
الثالث : لا يقال : لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حيا في قبره دائما لزم كونه محصورا في القبر أو مسجونا فيه؛ لأنا نقول : قد ورد أن المؤمن يفسح له في قبره كمد البصر ، فكيف بالنبي- صلى الله عليه وسلم- ؟ !
الرابع : إن قيل : فإذا كانوا أحياء قد أحياهم الله تعالى بعد موتهم؛ فيلزم من ذلك أنهم [ ص: 366 ] يموتون موتة ثانية عند النفخ في الصور فيذوقون الموت أكثر من غيرهم . أجاب الإمام الحافظ صلاح الدين العلائي في ترجمة موسى- صلى الله عليه وسلم- بأنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض ، فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت ، وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم؛ لئلا يلزم أنهم يموتون مرتين ، وهذا ما اختاره الإمام البيهقي وغيرهما أن صعقهم يومئذ ليس موتا بل غشي أو نحوه . والقرطبي
ويدل لصحته
قوله- صلى الله عليه وسلم- : « » . أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ، فلم يكن حيا قبلي
فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة ، وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيا عليه ، ويجيء من كان ميتا ، والنبي- صلى الله عليه وسلم- وكذلك غيره من الأنبياء لم يحصل لهم إلا الغشي .
والحاصل أن وغيرهم إلا نبينا- صلى الله عليه وسلم- تحقق أنه أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم الأنبياء موسى - عليه الصلاة والسلام- فإنه يحصل له تردد ، هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق .
قال العلائي : وهذا وجه أقوى ما يقرر عليه هذا الحديث وهو الذي لا يصح غيره .
[الحرة : الهمهمة : الصور : ] [ ص: 367 ]