ونقل العلامة زين الدين المراغي عن بعض مشايخه : أن محل تقدم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف ، فإن كان استحبت الزيارة أولا مع أن بعض المالكية ترخص في تقديم الزيارة على الصلاة . [ ص: 389 ]
وقال : كل ذلك واسع .
ومنها : أن في هذا الموقف العظيم فيقف بخضوع وخشوع تجاه المسمار الفضة الذي بجدار المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها عن مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأكد يشغل القلب ويذهب الخشوع؛ فليقصد الصدعة البائنة من باب المقصورة القبلي التي على يمين مستقبل القبر الشريف ، فإذا استقبلها كان محازيا لها ، والزيارة من داخل المقصورة أولى؛ لأنه موقف السلف ، والمنقول أن الزائر يقف على من رأس القبر الشريف نحو أربعة أذرع ، وقال ابن عبد السلام : على نحو ثلاثة أذرع ، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك . يتوجه بعد ذلك إلى القبر الكريم مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب
وقال في الإحياء : فينبغي أن يقف بين يديه كما وصفنا فتزوره ميتا كما كنت تزوره حيا ، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب شخصه الكريم لو كان حيا . انتهى .
التام في ظاهره وباطنه . ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يستقبل من جدران الحجرة الشريفة ملتزما للحياء والأدب
وقال الكرماني الحنفي : يضع يمينه على شماله كما في الصلاة .
وقال في الإحياء : واعلم فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعا في اللحد بإزائك وأحضر عظيم رتبته في قلبك . أنه- صلى الله عليه وسلم- عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه صلاتك وسلامك عليه ،
فقد روي عنه- صلى الله عليه وسلم- : «إن الله وكل بقبره ملكا يبلغه سلام من يسلم عليه من أمته» .
هذا في حق من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة نبوته الكريمة . انتهى .
ثم يسلم الزائر ولا يرفع صوته ولا يخفيه بل يقصد ، وأقله السلام عليك يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .
وجاء عن وغيره من السلف- رضي الله تعالى عنهم- أن الاقتصار جدا وجرى عليه الإمام ابن عمر ، واختار بعضهم التطويل في السلام ، وعليه الأكثرون ، ثم إن كان وصاه أحد بالسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فليقل : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان ، أو فلان بن فلان يسلم عليك يا رسول الله ، أو نحوه من العبارات ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع ، فيصير تجاه مالك فيقول : السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وثانيه في الغار ، ورفيقه في الأسفار ، جزاك الله عن أمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيرا . [ ص: 390 ] أبي بكر الصديق
ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع ، فيصير تجاه - رضي الله تعالى عنه- فيقول : السلام عليك يا عمر بن الخطاب الفاروق الذي أعز الله بك الإسلام ، جزاك الله عن أمة عمر محمد- صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء ، ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى ، ومن أحسن ما يقول ما حكاه المصنفون في المناسك من جميع المذاهب ، واستحسنوه ورأوه من أدب الزائر عن أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عقبة بن أبي سفيان - صخر بن حرب- العتبي ، أحد أصحاب قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحزائه ، فجاء أعرابي فزاره ثم قال : يا خير الرسل ، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه : سفيان بن عيينة ، ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء : 64] وإني جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ، ثم بكى وأنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي فداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وروى ابن السمعاني عن - رضي الله تعالى عنه- قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله ، قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك علي بن أبي طالب ولو أنهم إذ ظلموا [النساء : 64] الآية . فنودي من القبر : قد غفر لك .
وليجدد التوبة في ذلك الموقف ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها توبة نصوحا وليستشفع به- صلى الله عليه وسلم- إلى ربه في قبولها وليكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة الآية التي في قصة العتبي ويقول : نحن وفدك يا رسول الله وزوارك ، جئناك لقضاء حقك والتبرك بزيارتك والاستشفاع بك إلى ربك تعالى ، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا ، وأنت الشافع المشفع ، والموعود بالشفاعة العظمى ، والمقام المحمود ، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا ، مستغفرين لذنوبنا ، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك ، فأنت نبينا وشفيعنا ، فاشفع لنا إلى ربك واسأله أن يميتنا على سنتك ومحبتك ، ويحشرنا في زمرتك ، وأن يوردنا حوضك ، غير خزايا ولا ندامى . [ ص: 391 ]
وروى يحيى بن الحسن العلوي ، عن رضي الله تعالى عنه- قال : ابن أبي فديك-
سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب : 56] صلى الله على سيدنا محمد وسلم .
وفي رواية : صلى الله عليك يا رسول الله ، يقولها سبعين مرة ، ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، لم يسقط لك اليوم حاجة ، وينبغي تقديم ذلك على التوسل والدعاء .
قال المجد اللغوي : وروينا عن قال : وقف أعرابي مقابل قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال : اللهم إن هذا حبيبك ، وأنا عبدك ، والشيطان عدوك ، فإن غفرت لي سر حبيبك ، وفاز عبدك ، وغضب عدوك ، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ، ورضي عدوك ، وهلك عبدك ، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك ، وترضي عدوك وتهلك عبدك ، اللهم إن العرب الكرام إذا مات منهم سيد أعتقوا على قبره ، وإن هذا سيد العالمين ، فأعتقني على قبره . الأصمعي
قال : فقلت : يا أخا العرب ، إن الله تعالى قد غفر لك ، وأعتقك بحسن هذا السؤال . الأصمعي
قال المجد : ويأتي بأتم أنواع الصلوات وأكمل كيفياتها ، والاختلاف في ذلك مشهور . ويجلس الزائر إن طال القيام فيه ، فيكثر من الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ،
قال : والذي أختاره لنفسي ، اللهم صل على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه ، الصلاة المأثورة التي أجاب بها السائل عن كيفية الصلاة عليه ، عدد ما خلقت ، وعدد ما أنت خالق ، وزنة ما خلقت ، وزنة ما أنت خالق ، وملأ ما خلقت ، وملأ ما أنت خالق وملأ سماواتك ، وملأ أرضك ، ومثل ذلك ، وأضعاف ذلك وعدد خلقك ، وزنة عرشك ، ومنتهى رحمتك ، ومداد كلماتك ومبلغ رضاك حتى ترضى ، وعدد ما ذكرك به خلقك فيما مضى ، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي ، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ، ولحظة من اللحظات ، ونفس ولمحة ، وطرفة من الأبد إلى الأبد ، أبد الدنيا وأبد الآخرة ، وأكثر من ذلك ، لا ينقطع أولاه ، ولا ينفذ أخراه ، ثم يقول ذلك مرة ، أو ثلاث مرات .
ثم يقول : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، كذلك قال النووي : ثم يتقدم- يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف- إلى رأس القبر ، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك ، ويستقبل القبلة ، ويحمد الله تعالى ويمجده ، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه ، ولوالديه ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه ولسائر المسلمين . [ ص: 392 ]
وفي كتب الحنفية قال نحو هذا ، قال العز بن جماعة : وما ذكروه من العود قبالة الوجه الشريف ، ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء لم يكن إلا عقب الزيارة ، ولم ينقل عن فعل الصحابة والتابعين- رضي الله تعالى عنهم- أجمعين .
قال السيد : أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم ، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص ، والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين ، والجمع بين موقف السلف الأول الذي كان قبل إدخال الحجرة ، والثاني الذي كان بعده حسن .
قال النووي رحمه الله تعالى : ثم يأتي الروضة ، فيكثر فيها من الدعاء والصلاة ، ويقف عند المنبر ويدعو .
قال السيد : ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين ، ويتبرك بالصلاة عندها ، وكذا أسطوان أبي لبابة ، وأسطوان الحرس وأسطوان الوفود ، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم على السيدة فاطمة الزهراء - رضي الله تعالى عنها- عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة ، على القول بدفنها هناك .