قال : ثم إنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها ابن إسحاق قريش على بني هاشم وبني المطلب جماعة من قريش ، ولم يبل فيها بلاء أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث رضي الله عنه . وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه ، فكان هشام لبني هاشم واصلا ، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما بالليل وبنو هاشم وبنو المطلب بالشعب حتى إذا أقبله فم الشعب قلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل عليهم الشعب ، ويأتي بالبعير وقد أوقره برا فيفعل مثل ذلك .
قال ابن سعد : وكان أوصل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب ، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما ، فعلمت بذلك قريش فمشوا إليه حين أصبح فكلموه في ذلك فقال : إني غير عائد لشيء خالفكم . فانصرفوا عنه . ثم عاد الثانية فأدخل عليهم ليلا حملا أو حملين فغالظته قريش وهمت به . فقال دعوه ، رجل وصل أهل رحمه ، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا . أبو سفيان بن حرب :
ثم إن هشاما مشى إلى زهير بن أبي أمية رضي الله عنه ، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال له : يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يبايعون ولا يبتاع منهم ، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه . فقال : ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها . قال : قد وجدت رجلا . قال : من هو؟ قال : أنا : فقال له زهير : ابغنا رجلا ثالثا .
فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له : يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن مكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا . فقال : ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد . قال : قد وجدت ثانيا . قال : من هو؟ قال : أنا . قال : ابغنا ثالثا . قال : قد فعلت . قال : من هو؟ قال زهير بن أبي أمية . قال : ابغنا رابعا .
فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال : وهل أحد يعين على هذا الأمر؟ قال : نعم . قال : من هو؟ قال : زهير بن أمية والمطعم بن عدي وأنا معك . قال : ابغنا خامسا .
فذهب إلى زمعة بن الأسود فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال : وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال : نعم وسمى له القوم . [ ص: 414 ]
وعند الزبير بن أبي بكر : أن سهيل ابن بيضاء الفهري هو الذي مشى إليهم في ذلك ، ويؤيده قول أبي طالب في قصيدته الآتية :
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
وزاد ابن سعد في الجماعة : عدي بن قيس . وأسلم منهم هشام وزهير وسهيل وعدي بن قيس .
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك ، فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها ، وقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم .
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .
فقال أبو جهل ، وكان في ناحية المسجد : كذبت والله لا تشق .
قال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت .
قال أبو البختري : صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به .
قال المطعم : صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها .
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك .
فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل تشوور فيه في غير هذا المكان .
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد .
وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا : «باسمك اللهم» كما تقدم .
قال رضي الله عنهما : إنهم مكثوا محصورين في ابن عباس الشعب ثلاث سنين .
رواه . أبو نعيم
وقال محمد بن عمر الأسلمي : سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز : متى خرج بنو هاشم من الشعب ؟ قالا : في سنة عشر يعني من المبعث قبل الهجرة بثلاث سنين .
وقال صاعد في الفصوص : إنه صلى الله عليه وسلم خرج من الشعب وله تسع وأربعون سنة . قال : فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال ابن إسحاق أبو طالب فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم : [ ص: 415 ]
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
ترواحها إفك وسحر مجمع ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
فمن ينس من حضار مكة عزة فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا على ملاء يهدي لحزم ويرشد
قعود لدى خطم الحجون كأنهم مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
جريء على جلى الخطوب كأنه شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب إذا سيم خسفا وجهه يتربد
ألظ بهذا الصلح كل مبرأ عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا على مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا وسر بها أبو بكر ومحمد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا وكنا قديما قبلها نتودد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم وهل لكم فيما يجيء به عد
فإني وإياكم كما قال قائل لديك بيان لو تكلمت أسود
[تفسير الغريب]
البحري : هنا يراد به من كان هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر .
نأيهم : بعدهم . أرود : أرفق .
يراوحها بمثناة تحتية فراء فألف فواو فحاء مهملة أي تعتمد على الإفك مرة وعلى السحر المجمع أخرى .
يلف : بالفاء : يوجد .
فمن ينس : أراد ينسى فحذف الألف .
أتلد : أقدم .
الخير : الكرم . [ ص: 416 ]
المفيضون : بميم مضموم ففاء مكسورة فمثناة تحتية فضاد معجمة : المراد بهم ها هنا : الضاربون بقداح الميسر ، وكان لا يفيض معهم في الميسر إلا سخي .
الحجون : بحاء مهملة مفتوحة فجيم مضمومة : موضع بأعلى مكة .
خطم الحجون : قال في الصحاح : الخطمة بالضم : رعن الجبل أي أنفه المتقدم . وقال في موضع آخر : أنف كل شيء أوله وأنف الجبل بارز يشخص منه .
الرهط : بسكون الهاء وتحريكها دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى الأربعين .
الملأ : جماعة الناس وأشرفهم .
المقاولة : الملوك .
رفرف الدرع : ما فضل من درعها .
أحرد : بالحاء والدال المهملتين : بطيء المشي لثقل الدرع التي عليه .
جل الخطوب : معظمها ويروى جلى وهي الأمر العظيم .
قابس : موقد .
سيم : بكسر أوله كلف .
الخسف : بالخاء المعجمة والسين المهملة : الذل .
يتربد : بالراء والباء الموحدة : يتغير إلى السواد .
ألظ : لزم ولح .
أسود : قال : اسم رجل وأراد يا أسود ، وهو مثل يضرب للقادر على الشيء ولا يفعله . وقال الخشني السهيلي : هو هنا اسم جبل كان قتل عنده قتيل لم يعرف قاتله ، فقال أولياء المقتول هذه المقالة ، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القاتل ويعرف الجاني ، ولكنه لا يتكلم فذهبت مقالتهم مثلا . [ ص: 417 ]