ذكر ما عوقب به بنو إسرائيل  لقتلهم يحيى بن زكريا   
[ قال النبي صلى الله عليه وسلم: من هوان الدنيا على الله تعالى أن يحيى بن زكريا  قتلته امرأة  ] . 
زعم  السدي  ، عن أشياخه: أن رجلا رأى في المنام أن خراب بيت المقدس  وهلاك بني إسرائيل  على يدي غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل  يدعى  " بخت نصر "  ، فأقبل يسأل عنه حتى نزل على أمه وهي تحتطب ، فلما جاء على رأسه حزمة حطب ألقاها ثم قعد في البيت ، فكلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم ، فاشترى بها طعاما وشرابا ، فلما كان في اليوم الثاني فعل به ذلك ، وكذلك في اليوم الثالث ، ثم قال له: إني أحب أن تكتب لي أمانا إن أنت ملكت يوما من الدهر . قال: تسخر بي ؟ ! . قال: لا ، ولكن ما عليك أن تتخذ عندي بها يدا . قالت له أمه: وما عليك إن كان ، وإلا لم ينقصك شيئا . فكتب له أمانا ، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك ؟ فاجعل لي آية تعرفني بها . قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها ، فكساه وأعطاه . 
فلما قتل يحيى  أصبح دمه يغلي ، فلم يزل يلقى عليه التراب ويغلي إلى أن بلغ سور المدينة ، وخرج بخت نصر  من قبل صيحائين الملك  ، فتحصن القوم منه في مدائنهم ، فلما اشتد عليه المقام هم بالرجوع ، فخرجت إليه عجوز من عجائز بني إسرائيل  ، فقالت: إن فتحت لك المدينة ، أتعطيني ما أسألك فتقتل من آمرك بقتله ، وتكف إذا أمرتك ؟ قال: نعم . قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباع ، ثم أقم  [ ص: 12 ] على كل زاوية ربعا ، ثم ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك بالله بدم يحيى [ ابن زكريا  ، فإنها سوف تتساقط . 
ففعلوا فتساقطت المدينة ، ودخلوا من جوانبها ، فقالت: اقتل على هذا الدم حتى يسكن ، فقتل سبعين ألفا ، فلما سكن الدم ، قالت: كف يدك ، فإنه إذا قتل نبي لم يرض الله حتى يقتل من قتله ، ومن رضي قتله . فأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته ، وخرب بيت المقدس  ، وأمر أن يطرح فيه الجيف ، وقال: من طرح فيه جيفة فله جزيته تلك السنة ، وأعانه على إخرابه الروم  من أجل بني إسرائيل  إذ قتلوا يحيى   . 
فلما خربه بخت نصر  ذهب معه بوجوه بني إسرائيل  ، منهم: دانيال  ، فلما قدم أرض بابل  وجد صيحائين  قد مات ، فملك مكانه ، فقال له المجوس   : إن الذين قدمت بهم دانيال  وأصحابه ، لا يعبدون إلهك ، ولا يأكلون من ذبيحتك ، [ فدعاهم ، فسألهم ، فقالوا: أجل [ إن ] لنا ربا نعبده ولا نأكل من ذبحتكم ] فأمر بخد فخد لهم ، فألقوا فيه وهم ستة ، وألقي معهم سبع ضار ليأكلهم ، فلما راحوا إليهم وجدوهم جلوسا ، والسبع مفترش ذراعيه ، ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة ، فقالوا: إنما كانوا ستة ، فخرج السابع وكان ملكا فلطم بخت نصر  لطمة ، فصار في الوحش ، فكان فيهم سبع سنين . 
قال  أبو جعفر ابن جرير الطبري   : وقول من قال إن بخت نصر  هو الذي غزا بني إسرائيل  عند قتلهم يحيى  غلط عند أهل العلم بأمور الماضين ، لأنهم أجمعوا على أن بخت نصر  إنما غزا بني إسرائيل  عند قتلهم نبيهم شعياء  في عهد إرمياء  ، وبين أرمياء  وتخريب بخت نصر  بيت المقدس  إلى مولد يحيى  أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة ،  [ ص: 13 ] وهذا مما يتفق عليه اليهود  والنصارى  ، ويذكرون أن ذلك في أسفارهم مبين ، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر  بيت المقدس  إلى حين عمرانها في عهد كيرش أصبهبذ  بابل  من قبل بهمن  ، ثم من قبل خماني  سبعين سنة ، ثم من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر  عليها وحيازة مملكها إلى مملكته ثمانيا وثمانين سنة ، ثم من بعد مملكة الإسكندر  إلى مولد يحيى  ثلاثمائة وثلاث سنين ، فذلك على قولهم أربعمائة وإحدى وستون سنة . 
وأما المجوس   : فإنها توافق اليهود  والنصارى  في مدة خراب بيت المقدس   وأمر بخت نصر  ، وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل   [ إلى غلبة الإسكندر  على بيت المقدس  والشام  وهلاك دارا  ، وتخالفهم في مدة ما بين ملك الإسكندر   ] ومولد يحيى  ، فتزعم أن مدة ذلك إحدى وخمسون سنة . 
وقال  محمد بن إسحاق   : لما رجع بنو إسرائيل  من بابل  إلى بيت المقدس  ، ما زالوا يحدثون الأحداث ، ويبعث إليهم الرسل ، فريقا يكذبون وفريقا يقتلون ، حتى كان من آخر من بعث إليهم زكريا  ويحيى  وعيسى  ، وكانوا من بيت آل داود  ، فلما رفع الله عز وجل عيسى  ، وقتلوا يحيى   - وبعض [ الناس ] يقول: وقتلوا زكريا   - ابتعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل   [ يقال له: خردوس  ، فسار إليهم بأهل بابل   ] ، حتى دخل عليهم [ الشام   ] ، فقال لصاحب شرطته: إني كنت حلفت بإلهي: لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس  لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلى ألا أجد أحدا أقتله ،  [ ص: 14 ] فدخل بيت المقدس  ، فوجد دما يغلي ، فقال: ما بال هذا الدم يغلي ؟ فقالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا . فقال: ما صدقتموني . 
فقتل منهم خلقا كثيرا على ذلك الدم فلم يسكن . فقال: ويلكم اصدقوني قبل ألا أترك منكم أحدا ، فقالوا: هذا دم نبي منا قتلناه ، فقال: لهذا ينتقم منكم ربكم ، فأمر وذبح من الخيل والبقر والبغال والغنم حتى سال الدم إلى خردوس  ، فأرسل إليه: حسبك . 
وهذه الوقعة الأخيرة التي قال الله تعالى فيها: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة   . فكانت الوقعة الأولى بخت نصر  وجنوده ، ثم رد الله له الكرة عليهم ، ثم كانت الوقعة الأخيرة خردوس  وجنوده ، وهي كانت أعظم الوقعتين ، فيها كان خراب بلادهم ، وقتل رجالهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، يقول الله تعالى: وليتبروا ما علوا تتبيرا  
				
						
						
