[ ص: 348 ] ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة
فمن الحوادث فيها:
أن أبا الحسين محمد ابن قاضي القضاة أبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف ، قلد ما كان إلى أبي بكر بن صير من الأعمال ، وقرئ عهده على ذلك بحضرة أبيه في داره الشطانية بمشهد من الأشراف ، والقضاة ، والفقهاء ، والوجوه .
الطائع في داره ] [ قبض على
وفي يوم السبت تاسع عشر رمضان: قبض على الطائع في داره ، وكان السبب أن أبا الحسن بن المعلم ، وكان من خواص ، ركب إلى بهاء الدولة الطائع ووصى وقت دخوله أن لا يمنع أحدا من الحجاب ، ثم سار في الجيش ، فدخل وقد جلس بهاء الدولة الطائع في صدر الرواق من دار السلام ، متقلدا سيفا ، فلما قرب منه ، قبل الأرض وطرح له كرسي ، فجلس عليه . بهاء الدولة
[ وتقدم ] أصحاب فجذبوا بهاء الدولة الطائع بحمائل سيفه من سريره ، وتكاثر الديلم ، فلف في كساء وحمل إلى بعض الزبازب ، وأصعد به إلى الخزانة في دار المملكة ، [ واختلط الناس ] وقدر أكثر الجيش ومن ليس عنده علم بهذا الأمر أن القبض على ، وتشاغلوا بالنهب وأخذ ثياب من حضر من الأشراف والشهود ، وقبض على بهاء الدولة أبي الحسن علي بن عبد العزيز ابن حاجب النعمان في آخرين ، إلى أن قرر عليهم مال فاستوفي منهم .
واحتيط على الحجر والخزائن والخدم والحواشي ، وخرست الأخت زوجة الطائع ، وانصرف إلى داره ، وأظهر أمر بهاء الدولة ، ونودي بذلك في الأسواق ، وكتب إلى القادر بالله الطائع كتاب بخلع نفسه [ ص: 349 ] وتسليمه الأمر إلى ، وشهد عليه الأشراف والقضاة ، وذلك في يوم الأحد ثاني يوم القبض . وأنفذ إلى القادر بالله وأذن القادر الطائع والكتاب عليه بخلعه نفسه ، وتسليمه الأمر إلى ، وحث على المبادرة ، وشغب [ القادر بالله ] الديلم والأتراك يطالبون برسم البيعة ، وخرجوا إلى قبر النذور ، وترددت الرسل بينهم وبين ، ومنعوا من الخطبة باسم بهاء الدولة [ في ] يوم الجمعة لخمس بقين من الشهر . القادر
فقيل: اللهم أصلح عبدك وخليفتك ، ولم يسم ، ثم أرضى الوجوه والأكابر ، ووقع السكون ، وأخذت البيعة على الجماعة ، واتفقت الكلمة على الرضا والطاعة ، وأقيمت الخطبة في يوم الجمعة الثالث من رمضان باسم القادر بالله ، وحول من دار الخلافة جميع ما كان فيها من المال والثياب ، والأواني ، والمصاغ ، والفروش ، والآلات ، والعدد ، والسلاح ، والخدم ، والجواري ، والدواب ، والرصاص ، والرخام ، والخشب الساج والتماثيل . القادر
وطاف بهاء الدولة دار الخلافة مجلسا مجلسا ، واستقراها موضعا موضعا ، وانتخب للخاصة والعامة ، فدخلوها وشعثوا أبنيتها ، وقلعوا من أبوابها وشبابيكها ، ثم منعوا بعد ذلك ، وقام مهذب الدولة أبو الحسن علي بن نصر الذي كان هرب إليه بالبطائح بتجهيزه ، وحمل إليه من المال ، والفروش ، والآلات أكثر شيء وأحسنه ، وأعطاه طيارا كان بناه لنفسه ، وشيعه ، فلما وصل إلى القادر واسط اجتمع الجند وطالبوه [ برسم ] البيعة ، ومنعوه من الصعود ، إلا بعد إطلاق مالها ، وجرت معهم خطوب انتهت إلى أن وعدوا بإجرائهم مجرى البغداديين فيما يتقرر عليه أمورهم ، فرفضوا ، وسار ، وكان مقامه بالبطيحة منذ حصل فيها إلى أن خرج عنها سنتين وأحد عشر شهرا ، وقيل: سنتين وأربعة أشهر وأحد عشر يوما إلى اليوم الذي خرج منها .
أخبرنا محمد بن أبي منصور ، أخبرنا محمد بن أبي نصر الحميدي ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن قال: أخبرني أبي قال: حدثني أبو الحسين محمد بن الحسن بن محفوظ قال: حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجس قال: حدثني أبو القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة قال: لما ورد القادر بالله البطيحة وأقام عندنا كنت أغشاه يومين في كل أسبوع كالنوبة في خدمته ، فإذا حضرت [ ص: 350 ] تناهى في الإناء لي والإخفاء بي ، والرفع من مجلسي ، والزيادة في بسطي ، وأجتهد في تقبيل يده فيمنعنيها ولا يمكنني منها ، فاتفق أن دخلت إليه يوما على رسمي ، فوجدته متأهبا تأهبا لم أعرف سببه ، ولا جرت له به عادة ، ولم أر منه ما عودنيه من الإكرام والرفع من مجلسي والإقبال علي والبسط ، وجلست دون موضعي ، فما أنكر ذلك مني ، ورمت تقبيل يده ، فمدها إلي ، وشاهدت من أمره وفعله ما اشتد وجومي له ، واختلفت في الظنون فيه ، وقلت له عند رؤيتي ما رأيته ، وإنكاري ما أنكرته: أيؤذن لي في الكلام ؟
قال: قل . قلت: أرى اليوم من الانقباض عني ما قد أوحشني ، وخفت أن يكون لزلة كانت مني ، فإن يكن ذلك فمن حكم التفضيل إشعاري به لأطلب بالعذر مخرجا منه ، وأستعين بالأخلاق الشريفة في العفو عنه ، فأجابني بوقار: اسمع أخبرك ، رأيت البارحة في منامي كأن نهركم هذا - وأومأ إلى نهر الصليق - قد اتسع حتى صار في عرض دجلة دفعات ، وكأنني متعجب من ذلك ، وسرت على ضفتيه ، متأملا لأمره ومستظرفا لعظمه ، فرأيت دستاهيج قنطرة فقلت: ترى من قد حدث نفسه بعمل قنطرة في هذا الموضع ، وعلى هذا البحر الكبير وصعدته ؟ ! وكان وثيقا محكما ، ومددت عيني فإذا بإزائه مثله ، فزال عني الشك في أنهما دستاهيج قنطرة ، وأقبلت أصعد وأصوب في التعجب .
وبينا أنا واقف عليه رأيت شخصا قد قابلني من ذلك الجانب [ الآخر وناداني ] وقال: يا أحمد ، تريد أن تعبر ؟ قلت: نعم ، فمد يده حتى وصلت إلي وأخذني وعبرني ، فهالني أمره [ وفعله ] وقلت له: وقد تعاظمني فعله: من أنت ؟ قال: ، وهذا الأمر صائر إليك ، ويطول عمرك فيه ، فأحسن في ولدي ، وشيعتي . فما انتهى الخليفة إلى هذا المكان حتى سمعنا صياح الفلاحين وضجيج ناس ، فسألنا عن ذلك ، فقيل: ورد علي بن أبي طالب أبو علي الحسن بن محمد بن نصر ومعه جماعة ، وإذا هم الواردون للإصعاد به ، وقد تقررت الخلافة له ، وأنفذ معهم قطعة من أذن ، فعاودت تقبيل يده ورجله ، وخاطبته بإمرة أمير المؤمنين ، وبايعته ، وكان من إصعاده وإصعادي معه ما كان . الطائع لله
قال هلال: وجدت كتابا كتبه من الصليق إلى القادر بالله نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: من بهاء الدولة عبد الله أحمد الإمام القادر بالله أمير المؤمنين إلى بهاء الدولة وضياء الملة أبي نصر بن عضد الدولة وتاج الملة مولى أمير المؤمنين ، سلام [ ص: 351 ] الله عليك ، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، ويسأله أن يصلي على سيدنا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما .
أما بعد: أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأحسن إمتاع أمير المؤمنين بك ، وبالنعمة فيك وعندك ، فإن كتابك الوارد في صحبة الحسن بن محمد بن نصر - رعاه الله - عرض على أمير المؤمنين تاليا لما تقدمه ، وشافعا ما سبقه ومتضمنا مثل ما حواه الكتاب قبله من إجماع المسلمين قبلك الخاص ، والعام ، بمشهد منك على خلع العاصي المتلقب بالطائع عن الإمامة ، ونزعه عن منصب الخلافة لبوائقه المستمرة ، وسوء نيته المدخولة ، وإشهاده على نفسه بنكوله وعجزه ، وإبرائه الكافة من بيعته وخروجهم من عهده وذمته ، ومبادرة الكبير والصغير إلى المبايعة لأمير المؤمنين ، وإصفاقهم واتفاقهم عليها بانشراح في صدورهم ، وانفساح من آمالهم ، واستتباب ذلك بتلطفك من حسن الارتياد للمسلمين ، وانتظامه بغضبك لله ولأمير المؤمنين ، حتى ناديت بشعاره في الآفاق ، وأقمت الدعوة لله في الأقطار ، ورفعت من شأن الحق ما كان العاصي خفضه ، وقمت من عماد الدين ما كان المخلوع رفضه ، ووقف أمير المؤمنين على ذلك كله ، وأحاط علمه بجميعه ، ووجدك ، أدام الله تأييدك ، قد انفردت بهذه المأثرة ، واستحققت بها من الله تعالى جليل الأثرة .
ومن أمير المؤمنين سني المنزلة ، وعلى المرتبة ، وكانت هذه المنزلة عليك موقوفة ، كما كانت الظنون فيها إليك مصروفة ، حتى فزت بها بما يبقى لك في الدنيا ذكره وفخره ، وفي الآخرة ثوابه وأجره ، فأحسن الله عن هذه الأفعال مكافأتك ، وأجزل عاجلا وآجلا مجازاتك ، وشملك من توفيقه وتسديده ومعونته وتأييده ، بما يديم نصر أمير المؤمنين بك وظفره على يدك ، وجعلك أبدا مخصوصا بفضل السابقة في ولائه ، متوحدا بتقدم القدم في أصفائه ، فقد أصبحت وأمسيت سيف أمير المؤمنين لأعدائه ، والحاظي دون غيرك بجميل رأيك ، والمستبد بحماية حوزته ، ورعاية رعيته ، والسفارة بينه وبين ودائع الله عنده .
وقد برزت راية أمير المؤمنين عن الصليق متوجهة نحو سريره الذي حرسته ، ومستقر عزه الذي شيدته ، ودار مملكته التي أنت عمادها ، ورحى دولته التي أنت قطبها ، معتقدا لك ما يعتقد في المخلص طاعة ومشايعة ، والمهذب نية وطوية من صنوف الاختصاص الذي لا يضرب معك فيه بسهم دان ولا قاص ، وتوفي على كل سالف ، ويفوت [ ص: 352 ] كل آنف ، ويعجز كل مناو ، ويفحم كل مسام ومساو ، ولا يبقي أحد إلا علم أنه منزاح عنك ، غير متواز لك فأحببت لمحلك وقصر خطئه عن مجازاتك ، ووقع دون موقعك ، وتزحزح لك عن موضعك ، وقد وجد أمير المؤمنين الحسن بن محمد بن نصر ، كلأه الله مصدقا بفعله وصفك ، محققا ثناءك ، مستوجبا لما أهلته ورشحته للقيام به من المسير في خدمته ، والحقوق فيما يبديه له ، وعلم أمير المؤمنين أنك لم تتلقه ، إلا بأوثق خواصك في نفسك ، وأوفرهم عندك؛ فاحمد في ذلك اعتمادك ، وإضافة إلى سوالف أمثاله منك ، فاعلم ذلك أدام الله تأييدك ، وأجر على عادتك الحسناء وطريقتك المثلى في النيابة تبقي ، وواصل حضرة أمير المؤمنين بالإنهاء ، والمطالعة إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . وكتب ليلة الأحد لثلاث ليال بقين من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة