ومن حفظ الصحة كما هو معلوم من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال العقلاء ويأتي في آداب الأكل ما يتعلق بذلك . ومعلوم أن مخالفة ذلك يضر مع التكرار . ولهذا قال الأطباء : حبس الريح إذا أراد الخروج يورث الحصر وظلمة العين ووجع الفؤاد والرأس ، وحبس البول يورث جميع هذه الأشياء مع الحصاة . وحبس البراز يورث ذلك كله ، وطول المكث على قضاء الحاجة يولد الداء الدوي ، وحبس الجشاء يورث الفراق ، وحبس الباءة يورث وجع الذكر والفؤاد وسيلان النطفة والحصاة والأدرة ، وحبس النوم يورث الثقل في الرأس ووجع العين . إخراج حاصل يضر البدن بقاؤه وفعل ما احتاجه البدن من نوم وغيره
ومن مقاصد الجماع إخراج المني الذي يضر بقاؤه ونيل اللذة والشهوة وتكثير النسل إلى أن تتكامل العدة التي علم الله تعالى وقدر ظهورها إلى العالم . وكان جالينوس وغيره يرون الجماع من أسباب حفظ الصحة .
ومزاج المني حار رطب ; لأنه من الدم المغذي للأعضاء الأصلية ; ولهذا لا ينبغي إخراجه إلا لشدة الشهوة فإن الإكثار منه يطفئ الحرارة الغريزية ويشعل الحرارة الغريبة ويسقط القوة ويضعف المعدة والكبد ويسيء الهضم ويفسد الدم ويجف الأعضاء الأصلية ويسرع إليها الهرم والذبول ويبرد البدن [ ص: 386 ] ويجففه ويضعفه ويخلخله ويهرم سريعا ويجفف الدماغ ويضر بالعصب ويفسد اللون ويورث الرعشة ويضر بالصدر والرئة والكلى ويهزلها ، ويضر من يعتريه القولنج ووجع المفاصل ومن به مرض بارد ومن به جرب ونحوه ; لأن الجماع يحرك المواد إلى خارج ، والمخمور فإنه يملأ الرأس بخارا دخانيا ويضر بالعين والخاصرة أكثر من غيرهما ، وقد قيل : هو نور عينك ، ومخ ساقيك ، وذكر ابن الجوزي في ملتقط المنافع هذا القول عن . مالك بن أنس الإمام
والأولى بالحذر منه أصحاب الأبدان النحيفة والأمزجة اليابسة ; فإنه يسرع بهم إلى الذبول . والأبدان البيض الشحمية وإن كانت أبعد عن الذبول إلا أنها أقرب إلى أمراض العصب لكثرة الفضول . ومن منيه قليل ودمه قليل فشهوته له ضعيفة ، والأقوى عليه من كثر شعر أسفل بدنه مما يلي العانة والفخذين فإنه يدل على حرارة مزاج الأنثيين والقضيب .
وينبغي أن يحذر منه حذر العدو الشيخ ، قال بعضهم : والكهل ومن فقد شعر إبطيه لكبره انقطع نكاحه ونسله ، ومن أكثر منه فينبغي أن يقل إخراج الدم والتعب والحمام ويزيد في الغذاء والشراب والنوم والطيب والادهان ، وليتنقل باللوز والفستق والسكر ويتعاهد ما يكثر المني . والأغذية في ذلك أبلغ من الأدوية ، والذي يجمع ذلك ما له غلظ ورطوبة فضلية وحرارة ، واجتمعت هذه الثلاثة في الحمض واللفت والجزر ، ومن ضعفت قوته بعده جدا يتدارك بالأغذية السريعة النفوذ كاللحم المطيب والبيض النيمرشت .
قال جالينوس : الإكثار منه إذا كانت القوة قوية ينفع من الأمراض البلغمية ، ومن منافعه الإبراء من الماليخوليا وطرب النفس وقوة النشاط ويخفف على الرأس والحواس وإزالة داء العشق وغض البصر وكف النفس [ ص: 387 ] والأجر عليه فهو ينفعه في الدين والدنيا والمرأة كذلك ، وقد رغب الشرع فيه ، وحض عليه ، وأمر به كما هو مشهور في الأخبار مذكور في كتب الفقه .
ومما يزيد في الباءة اللوز الحلو والفستق والبندق وحب الصنوبر والسكر والسمسم المقشور ولبس الثوب المصبوغ بالورس وكثرة ركوب الخيل والعنب الحلو والتين وصفرة البيض ولسان العصافير ، والدارصيني ، والماء الذي يغمس فيه الحديد المحمي وسمن البقر والعصافير والعسل والهليون واللبن الحليب وغير ذلك . ولا يدع الجماع دائما ; لأنه خلاف الشرع .
وقال الأطباء محمد بن زكريا الرازي وغيره : من هجره ضعفت قوى أعضائه واستدت مجاريها وتقلص ذكره ، ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف فبردت أبدانهم ، وعسرت حركاتهم ، ووقعت عليهم كآبة وقلت شهواتهم وهضمهم ، وأنفع الجماع بعد الهضم عند اعتدال البدن ، وشدة الشهوة لا مع فكر أو نظر ونحوه .
وقال بعض الأطباء ينبغي لحاجة البدن إليه لا لشوق النفس إليه . ومراده والله أعلم أدنى شوق وإلا فإذا أشتد شوقه ضره إن لم يخرجه .
ولا ينبغي الجماع على الجوع فإنه يوقع في الدق ولا على الامتلاء فإنه يمنع الهضم مع أنه أقل ضررا من الجوع ولا على عطش أو غضب أو عقب سهر أو تعب أو في الحمام أو عقب إسهال .
ومما يضعف الباءة كل حار لطيف من الأغذية والأدوية كالسذاب ونحوه ، وكل قوي التجفيف يابس كالأرز والعدس ، وكل بارد مجمد للمني كالنيلوفر والخلاف والورد والأشياء القابضة والحامضة والمزة كالسفرجل والتفاح والخل ، وشرها ما جمع إلى الحموضة قبضا مثل الحصرم والسماق والرمان والحامض ، وكل ماله مائية كثيرة باردة من البقول كالخس والقرع وبقلة الحمقاء وهي الفرفحين والطرخون والهندبا والقثاء والخيار وكثرة شرب الماء البارد والتخم وإتيان الحائض والصغيرة التي لم تبلغ .
وقال بعضهم : التي لا شهوة لها والكريهة ، وقال بعضهم : والمريضة .
وقال [ ص: 388 ] بعضهم : والحائل التي لم تؤت زمانا طويلا ، وقال بعضهم : والعاقر ، وقال بعضهم : وجماع الثيب أنفع من جماع البكر وأحفظ للصحة ; وعلل بأن جماع البكر وهؤلاء كلهن يضعف قوة أعضاء الجماع خاصة ، وهذا الذي قاله في البكر مخالف للحس والشرع والعقل فلا يلتفت إليه ، قال ابن بختيشوع وغيره : وطء الحائض يولد الجذام .
قال جالينوس في النيلوفر خاصية مضادة للمني فشمه يضعفه وشربه يقطعه ، وقال : الإكثار من إدرار البول ينقض الباءة ; لأنه يهزل الكلى ومن يعتريه عقبه نافض فمن المرار الأصفر ، ومن تأتيه رعشة فيقوي دماغه بالمسك والعنبر والطيور الحارة ، ومن يرتفع إلى رأسه بخار فيصعد فيقوي رأسه بما يناسب من البارد .
قال أبقراط : السمان لا يشتهون الباءة ولا يقوون على الإكثار منه ، قال : والمقعدون أكثر جماعا لقلة تعبهم ; ولأنهم لا يمشون كثيرا ومن كان مزاج أنثييه حارا رطبا انتفع بالجماع لكثرة المني المتولد فيه فإن لم يخرجه تعفن وولد أمراضا .
ومن كان مزاج أنثييه حارا يابسا كان كثير الشبق إلا أنه يمل الجماع سريعا بسبب قلة ما يتولد من المني لغلبة اليبس ، وهذا متى جامع كثيرا استضر به ، ومن كان مزاج أنثييه باردا رطبا كانت نهضته إلى الجماع بطيئة ، وهذا يستضر بالجماع ، وإن كان مزاجهما باردا يابسا كان عديم الشهوة بالجملة .
ومادة المني من الهضم الرابع ، ونقض المني من قبل الدماغ ، وعدم انتشار الذكر ، وقوة حركته من قبل القلب ، وفقد شهوة الذكر من قبل الكبد . وأحرص ما يكون أشد غلمة إذا احتلم ، وكلما دخل في السن نقص ذلك ، والمرأة يشتد حرصها على ذلك حين تكتهل ، وللأطباء قولان [ ص: 389 ] ويروى من حديث أيهما أشد شهوة الرجال أم النساء ؟ موقوفا ومرفوعا { أبي هريرة فضلت المرأة على الرجل بتسعة وتسعين جزءا من اللذة أو قال من الشهوة ، لكن الله ألقى عليهن الحياء } وذكره وغيره وقال ابن عبد البر في الفنون : قال فقيه : شهوة المرأة فوق شهوة الرجل بتسعة أجزاء ، فقال حنبلي : لو كان هذا ما كان له أن يتزوج بأربع وينكح ما شاء من الإماء . ابن عقيل
ولا تزيد المرأة على رجل ، ولها من القسم الربع وحاشا حكمته أن تضيق على الأحوج .
وأحسن أن تتقدمه مقدماته من القبلة والمداعبة ونحو ذلك لتتحرك الشهوة منها . وقد ذكر الأطباء : أن الرجل إذا فرك حلمتي المرأة اغتلمت ثم يعلوها مستفرشا لها قال تعالى : { أحوال الجماع هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } وهذه الحال أسبغ اللباس وأكمله .
وأما علو المرأة للرجل فخلاف مقتضى الشرع والطبع وهو مضر عند الأطباء قالوا : يورث الأدرة والانتفاخ وقروح الإحليل والمثانة ; لأجل ما يسيل من منيها ويدخل الإحليل وهو حار ، وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن على حرف : ويقولون هو أستر للمرأة ، وكانت قريش والأنصار تشرح النساء على أقفائهن فعابت اليهود عليهم ذلك فأنزل الله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } .
وظاهر هذا أنه لا يكره ، وقد كره رحمه الله للمرأة تستلقي على قفاها ، وقال : يروى عن أحمد أنه كرهه ، ولعل المراد غير حال المجامعة مع أن كراهته ، تفتقر إلى دليل ، والأصل عدمه . وقد ذكر [ ص: 390 ] الأطباء : أن الجماع على جنب مضر ربما أورث وجع الكلى وأن الجماع من قعود يضر بالعصب . عمر بن عبد العزيز
قال ابن ماسويه : ومن احتلم فلم يغتسل حتى وطئ أهله فولدت مجنونا أو مختبلا فلا يلومن إلا نفسه ، وقد سبق أنه لا بد في بقاء البدن من الغذاء والشراب ولا بد أن يبقى من الغذاء فضلة عند كل هضم فيجتمع من ذلك على ممر الزمان شيء يضر البدن بثقله أو غيره ، وإن استفرغ بدواء تأذى البدن به إما بسمنة أو لإخراجه صالحا منتفعا به ، وقد يضر بكيفيته بأن يسخن بنفسه أو بالعفن أو يبرد بنفسه أو يضعف الحرارة الغريزية عن إنضاجه ، والحركة أقوى الأسباب في منع تولد ذلك ; لأنها تسخن الأعضاء وتسيل فضلاتها فلا تجتمع ، وتعود البدن الخفة والنشاط وتجعله قابلا للغذاء وتصلب المفاصل وتقوي الأوتار والرباطات . وتؤمن جميع الأمراض المادية وأكثر المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صوابا ، ووقت الرياضة بعد انحدار الغذاء وكمال الهضم ، والرياضة المعتدلة هي التي تحمر فيها البشرة وتربو ويتندى بها البدن ، فأما الذي يلزمها سيلان العرق فمفرطة .
قال الأطباء : وكل عضو يقوى بالرياضة . قال بعضهم وخصوصا على نوع تلك الرياضة ، بل كل قوة . فهذا شأنها فمن استكثر من الحفظ قويت حافظته ، ومن الفكر قويت قوته المفكرة قال بعضهم : ولكل عضو رياضة تخصه ، فللصدر القراءة فيبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج ، ورياضة السمع بسمع الأصوات ، والكلام بالتدريج فينتقل من الأخف إلى الأثقل ، وكذلك رياضة البصر وقد سبق رياضة اللسان في الكلام .
ورياضة المشي بالتدريج شيئا فشيئا وركوب الخيل ورمي النشاب والصراع . والمسابقة على الأقدام رياضة البدن كله ، وهي قالعة لأمراض مزمنة كالجذام والاستقاء [ ص: 391 ] والقولنج . ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب ، والفرح ، والصبر ، والثبات والإقدام والسماحة وفعل الخير ، وإذا تكرر ذلك مرة بعد أخرى صار عادة وطبيعة ثانية .
وقد ذكر الأطباء أن العوائد طبائع ثوان ، ومن أبلغ ذلك وأنفعه الجهاد والصلاة والصيام والحج . وقد سبق هذا المعنى قبل فصول الأمر بالمعروف في الكلام على ذي النون وتضمنه علاج زوال الهم والغم وغير ذلك ، ويأتي الكلام في الصبر نحو نصف الكتاب قبل الكلام في حسن الخلق والزهد وسبق الكلام في الصوم والجوع في ذكر الحمية .
وفي الصحيحين عن يبلغ به النبي : صلى الله عليه وسلم { أبي هريرة } قافية كل شيء آخره ، ومنه قافية الشعر . وهذه العقد قيل : حقيقة كعقد السحر ، وقيل : هو قول يقوله ، وقيل : هو فعل يفعله ، وقيل : هو من عقد القلب وتصميمه ، فكأنه يوسوس في نفسه ببقاء الليل ، وقيل : هو مجاز كنى به عن تثبيط الشيطان عن قيام الليل . يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام يضرب على كل عقدة : عليك ليل طويل فارقد ، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة ، فإذا توضأ انحلت عقدتان فإذا صلى انحلت العقد فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان
قال في شرح مسلم : وظاهر الخبر أن من لم يأت بالذكر والوضوء والصلاة وإلا دخل فيمن أصبح خبيث النفس كسلان . وهو كما قال ، وقد يحتمل أن المراد : وإلا إن لم يأت ببعض ذلك ، وقد سبق قول النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الرجل أنه من أهل الجنة الذي بات عنده أصبح خبيث النفس كسلان ولم يكن يصلي من الليل ، وإنما كان يذكر الله إذا استيقظ ويصلي قبل نومه ما قدر له ، ولهذا كانت التراويح قيام الليل واقتصر عليها خلق ، فلا يتوجه أن يقال : إن من اقتصر عليها أصبح خبيث النفس كسلان ; ولأنه يبعد القول بظاهره فيمن ذكر الله ثم اشتغل بقراءة واستغفار ودعاء حتى توضأ لصلاة الفجر ، أو اشتغل برباط أو غيره مع إمكان الوضوء والصلاة ، أو فيمن [ ص: 392 ] توضأ وصلى ولم يتقدم منه ذكر الله تعالى ، ولعل الحديث فيمن استيقظ فلم يأت بذلك أما من لم يستيقظ فإنه معذور ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم { ابن عمر } فلا يناسب أن يصبح خبيث النفس كسلان . : ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة
فإن قيل ففي أو في الصحيحين { مسلم } فلم يعذر بالنوم ، قيل يحتمل أنه في رجل خاص ويحتمل أنه نام عن صلاة مفروضة العشاء أو الفجر أو هما كما هو ظاهر اللفظ . ولم أجد من ذكر ذلك ، وإنما ذكروه حجة في صلاة الليل ، فيقال : لا عقوبة في هذا ; لأنه إنما تمكن منه فثبطه عن فعل المبرزين في الخيرات بنومه ، وأما هنا فترتب عليه عقوبة مستقبلة لما سبق منه . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه نام ليله حتى أصبح قال : ذاك رجل بال الشيطان في أذنه ، أو قال : في أذنيه في الصحيحين أبا هريرة وأظن في وأبا الدرداء مسلم في وأبا ذر بالوتر قبل النوم لغلبة النوم عليهم ، وبصلاة الضحى بدلا عما فاتهم من قيام الليل ; ولذلك لم يأمر بهما سواهم أو من في معناهم ، ولا يظن بواحد منهم أنه يصبح خبيث النفس كسلان النسائي هو راوي هذا الحديث فدل ذلك على ما ذكرنا والله أعلم . وقد روى ، وأبو هريرة أبو داود في باب صلاة العتمة من أبواب الأدب ثنا مسدد ثنا ثنا عيسى بن يونس عن مسعر بن كدام عن عمرو بن أمية قال : قال رجل قال سالم بن أبي الجعد : أراه من خزاعة ليتني صليت واسترحت ، فكأنهم عابوا ذلك عليه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { مسعر أقم الصلاة أرحنا بها بلال } . حدثنا يا ابن أبي كثير أنبأ ثنا إسرائيل عثمان بن المغيرة [ ص: 393 ] عن عن سالم بن أبي الجعد عبد الله بن محمد ابن الحنفية قال : انطلقت أنا وأبي إلى صهر لنا من الأنصار نعوده ، فحضرت الصلاة فقال لبعض أهله : يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح فقال : فأنكرنا ذلك فقال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أقم فأرحنا بالصلاة بلال } إسنادان جيدان ، واحتج الشيخ يا تقي الدين به على هذا المعنى قال : ولم يقل أرحنا منها .