الآية الخامسة : 
قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما    } . 
فيها ثمان عشرة مسألة : المسألة الأولى : في سبب نزولها    : وفيه خمسة أقوال : الأول : أن الله سبحانه صان خلوة نبيه ، وخيرهن ألا يتزوجن بعده ، فلما اخترنه أمسكهن ; قاله  مقاتل بن حيان    . 
الثاني : أن الله سبحانه خير نبيه بين الدنيا والآخرة ; فجاءه الملك الموكل بخزائن الأرض بمفاتحها ، وقال له : إن الله خيرك بين أن تكون نبيا ملكا ، وبين أن تكون عبدا نبيا . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل  كالمستشير ، فأشار إليه أن تواضع فقلت : بل نبيا عبدا ، أجوع يوما وأشبع يوما . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين   } . 
فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير أزواجه ليكن على مثاله ; قاله ابن القاسم    . 
الثالث : أن أزواجه طالبنه بما لا يستطيع ، فكانت أولاهن  أم سلمة    ; سألته سترا معلما ، فلم يقدر عليه . وسألته ميمونة  حلة يمانية . وسألته  زينب بنت جحش  ثوبا مخططا . وسألته  أم حبيبة  ثوبا سحوليا . وسألته  سودة بنت زمعة  قطيفة خيبرية . وكل  [ ص: 551 ] واحدة منهن طلبت منه شيئا ، إلا  عائشة    ; فأمر بتخييرهن حكاه النقاش  ، وهذا بهذا اللفظ باطل . 
والصحيح ما في صحيح  مسلم  عن  جابر بن عبد الله  قال : { جاء أبو بكر  يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسا عند بابه لم يأذن لأحد منهم قال : فأذن لأبي بكر  ، فدخل ، ثم أقبل  عمر  فاستأذن فأذن له بالدخول ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحوله نساؤه ، واجما ساكتا قال : فقال أبو بكر    : لأقولن شيئا يضحك النبي صلى الله عليه وسلم . فقال : أرأيت يا رسول الله بنت خارجة  ، سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة . فقام أبو بكر  إلى  عائشة  يجأ عنقها ، وقام  عمر  إلى حفصة  يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده . ثم اعتزلهن شهرا ، ثم أنزلت عليه آية التخيير : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا    }   } . 
فقد خرج من هذا الحديث الصحيح أن  عائشة  طلبته أيضا . فتبين بطلان قول النقاش    . 
الرابع : أن أزواجه اجتمعن يوما فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب ، حتى قال بعضهن : لو كنا عند غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان لنا حلي وثياب وشأن ، فأنزل الله تعالى تخييرهن ; قاله النقاش    . 
الخامس : أن أزواجه اجتمعن في الغيرة عليه ، فحلف ألا يدخل عليهن شهرا ، ونصه ما روى عبد الله بن عبيد الله بن أبي ثور  عن  ابن عباس  قال : لم أزل حريصا على أن أسأل  عمر بن الخطاب  عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين فيهما قال الله  [ ص: 552 ] تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما    } فمكثت سنة ما أستطيع أن أسأله هيبة له ، حتى حج  عمر  ، وحججت معه ، فلما كان بمر الظهران  عدل  عمر  إلى الأراك ، فقال : أدركني بإداوة من ماء ، فأتيته بها وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز  عمر  ، ثم أتاني ، فسكبت على يده الماء فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ; من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما    } ، فإني أريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك . 
فقال  عمر    : واعجبا لك يا  ابن عباس  ، لا تفعل ، ما ظننت أن عندي فيه علما ، فسلني عنه ، فإن كنت أعلمه أخبرتك . 
قال الزهري    : كره والله ما سأله عنه ، ولم يكتمه . 
قال : هما والله  عائشة  وحفصة  ، ثم أخذ يسوق الحديث . قال : { كنا معشر قريش  نغلب النساء فقدمنا المدينة  ، فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم . قال : وكان منزلي في بني أمية بن زيد  بالعوالي  فتغيظت يوما على امرأتي ، وذلك أني كنت في أمر أريده قالت لي : لو صنعت كذا . فقلت لها : مالك أنت ولهذا وتكلفك في أمر أريده ، فإذا هي تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن يومها إلى الليل . فأخذت ردائي ، وشددت علي ثيابي ، فانطلقت ، وذلك قبل أن ينزل الحجاب ، فدخلت على  عائشة  ، فقلت لها : يا بنت أبي بكر  ، قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : مالي ولك يا ابن الخطاب  ، عليك بعيبتك . فدخلت على حفصة  ، فقلت : قد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : نعم . فقلت : أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ، فقالت : نعم . قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله ، فإذا هي قد هلكت ، لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئا ، واسأليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله  [ ص: 553 ] صلى الله عليه وسلم إياها ; هي أوسم منك ، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد  عائشة    . لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ، ولولا أنا لطلقك ; فبكت أشد البكاء . ودخلت على  أم سلمة  لقرابتي منها فكلمتها ، فقالت لي : واعجبا لك يا ابن الخطاب  ، قد دخلت في كل شيء حتى تبغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أزواجه ; وإنه كسرني ذلك عن بعض ما كنت أجد . وكان لي جار من الأنصار  ، فكنا نتناوب في النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يوما وأنزل يوما ، ويأتيني بخبر الوحي ، وآتيه بمثل ذلك ، وكنا نتحدث أن غسان  تنعل الخيل تغزونا ، فنزل صاحبي ثم أتاني عشيا ، فضرب بابي ، وناداني ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم . فقلت : ماذا ؟ أجاءت غسان  ؟ فقال : بل أعظم من ذلك . فقلت : ما تقول ، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ؟ فقلت : قد خابت حفصة  ، وخسرت ، قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون ; حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ، ثم نزلت ، فدخلت على حفصة  ، وهي تبكي . فقلت : طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشربة . فأتيت غلاما أسود قاعدا على أسكفة الباب مدليا رجليه على نقير من خشب وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر . فقلت : استأذن  لعمر  ، فدخل ، ثم خرج ، فقال : قد ذكرتك له فصمت . فانطلقت ، حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن  لعمر    . فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن  لعمر  ، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة  ، والله لئن أمرني أن أضرب عنقها لأضربن عنقها . قال : ورفعت صوتي ، فدخل ، ثم خرج ، فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فوليت مدبرا ، فإذا الغلام يدعوني قال : ادخل فقد أذن لك . فدخلت ، فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير ، قد أثر  [ ص: 554 ] في جنبه ، ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدم ، حشوها ليف . فقلت : يا رسول الله ، أطلقت نساءك ؟ ما يشق عليك من أمر النساء ؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل  ، وأنا وأبا بكر  والمؤمنين . قال : وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية آية التخيير : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات    } . فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلي فقال : لا . فقلت : الله أكبر ، لو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا معشر قريش  نغلب النساء ، فقدمنا المدينة  فوجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني . قالت : ما تنكر أن أراجعك . فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر ، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، قد دخلت على حفصة  فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى ; وإني لما قصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث  أم سلمة  تبسم ، ولم أزل أحدثه حتى انحسر الغضب عن وجهه وكشر ، وكان من أحسن الناس ثغرا . فقلت : أستأنس يا رسول الله عليك ، قال : نعم . فجلست فرفعت بصري في البيت ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر ، إلا أهبا ثلاثة ، وإلا قبضة من شعير نحو الصاع ، وقرظ مصبور في ناحية الغرفة وإذا أفيق معلق ; فابتدرت عيناي ، فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب  ؟ فقلت : وما لي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزائنك لا أرى فيها شيئا إلا ما أرى ، وذلك كسرى وقيصر في الأنهار والثمار ، وأنت رسول الله وصفوته ؟ وقلت : ادع الله أن يوسع لأمتك ، فقد وسع الله على فارس  والروم  ، وهم لا يعبدون الله .  [ ص: 555 ] فاستوى جالسا ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب  ، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . وإن  عمر  استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه ، فأذن له ، فقام  عمر  على باب المسجد ينادي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم    } فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير   } . وكان أقسم لا يدخل عليهن شهرا ، يعني من أجل ذلك الحديث يعني قصة شرب العسل في بيت زينب  على ما يأتي بيانه في سورة التحريم . هذا نص  البخاري   ومسلم  جميعا ، وهو الصحيح الذي يعول عليه ، ولا يلتفت إلى سواه . 
المسألة الثانية : هذا الحديث بطوله الذي اشتمل عليه كتاب الصحيح يجمع لك جملة الأقوال ; فإن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على أزواجه من أجل سؤالهن له ما لا يقدر عليه ، لحديث  جابر  ولقول  عمر  لحفصة  ، لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، وسليني ما بدا لك . 
وسبب غيرتهن عليه في أمر شرب العسل في بيت زينب ، لقول  ابن عباس   لعمر    : من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان تظاهرتا عليه ؟ وقوله : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن    } . 
وذلك إنما كان في شرب العسل في بيت زينب    ; فهذان قولان وقعا في هذا الحديث نصا . وفيه الإشارة لما فيها بما جاء في حديث  جابر  من عدم قدرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النفقة ، حتى تجمعن حوله بما ظهر  لعمر  من ضيق حال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما لما اطلع في مشربته من عدم المهاد ، وقلة الوساد . وفيه إبطال ما ذكره النقاش  من أن  [ ص: 556 ]  عائشة  لم تسأله شيئا ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : هن حولي ، كما ترى ، وقيام أبي بكر   لعائشة  يجأ في عنقها ، ولولا سؤالها ما أدبها . 
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( قل ) قال الجويني    : هو محمول على الوجوب ، واحتج بهذا الحديث الذي سردناه آنفا ، ولا حجة فيه ; أما أن قوله : ( قل ) يحتمل الوجوب والإباحة ، فإن كان الموجب لنزول الآية تخيير الله له بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، فأمر أن يفعل ذلك بأزواجه ليكن معه في منزلته ، وليتخلقن بأخلاقه الشريفة ، وليصن خلواته الكريمة من أنه يدخل عليها غيره فهو محمول على الوجوب . 
وإن كان لسؤالهن الإنفاق فهو لفظ إباحة ، فكأنه قيل له : إن ضاق صدرك بسؤالهن لك ما لا تطيق فإن شئت فخيرهن ، وإن شئت فاصبر معهن ، وهذا بين لا يفتقر إلى إطناب . 
				
						
						
