المسألة الثالثة قال الشعبي في روايته : { الجزيرة ، فقال : كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا به فإنه زاد إخوانكم من الجن . } وسألوه الزاد ، وكانوا من جن
وقد ولا يصح طعامهم ; اجتراء على الله وافتراء [ عليه ] . أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن وقالوا إنهم بسائط
وقد مهدنا الرد عليهم في كتب الأصول ، وبينا جواز وجودهم عقلا لعموم القدرة الإلهية ، وأوضحنا وجوب وجودهم شرعا بالخبر المتواتر من القرآن والسنة ، وأن الله خلق لهم من تيسر التصور في الهيئات ما خلق لنا من تيسر التصور في الحركات ; فنحن إلى أي جهة شئنا ذهبنا ، وهم في أي صورة شاءوا تيسرت لهم ، ووجدوا عليها ، ولا نراهم في هيئاتهم ، إنما يتصورون في خلق الحيوانات .
وقولهم : إنهم بسائط ، فليس في المخلوقات بسيط ، بل الكل مركب مزدوج ، إنما الواحد الله سبحانه ; وغيره مركب ليس بواحد كيفما تصرف حاله ; وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم ، كما يرى الملائكة ; وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ; ففي الحديث الصحيح عن وغيره عن مالك أبي السائب مولى هشام بن زهرة { في بيته ; قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى تقضى صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين من ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن أجلس ، فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار ، فقال : أترى هذا [ ص: 273 ] البيت ؟ فقال : نعم . فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس . قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي سعيد الخدري الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ، فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ عليك سلاحك ; فإني أخشى عليك قريظة . فأخذ الرجل سلاحه ، ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به ، وأصابته غيرة ، فقالت له : كف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل ، فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح ، فانتظمها ، ثم خرج به فركزه في الدار ، فاضطربت عليه فما ندري أيهما كان أسرع موتا : الحية أم الفتى . قال : فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك ، قلنا : ادع الله يحييه لنا . فقال : استغفروا لصاحبكم . ثم قال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثا ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه ، فإنما هو شيطان } . أنه دخل على
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : { } . إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه ، فإنه كافر
أو قال : { } . اذهبوا فادفنوا صاحبكم
ومن حديث ابن عجلان عن عن أبي السائب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي سعيد بالمدينة نفرا من الجن أسلموا ، فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا ، فإن بدا له بعد فليقتله ، فإنه شيطان } . إن
وقد روى { ابن أبي ليلى ، فقال : إذا رأيتم منهن شيئا بعد ذلك فقولوا : نشدتكم العهد الذي أخذ عليكم [ ص: 274 ] الحيات التي تكون في البيوت نوح نشدتكم العهد الذي أخذ عليكم سليمان ألا تؤذونا ، فإن رأيتم منهن شيئا بعد ذلك فاقتلوهن . } المسألة الرابعة قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن في رواية مالك عنه في التقديم إلى الحيات يقول يا عبد الله ; إن كنت تؤمن بالله ورسوله وكنت مسلما فلا تؤذنا ولا تشعفنا ، ولا تروعنا ، ولا تبدون لنا ، فإنك إن تبد بعد ثلاث قتلتك . قال ابن وهب ابن القاسم : قال : يحرج عليه ثلاث مرات ألا يبدو لنا ، ولا يخرج . مالك
وقال أيضا عنه : أحرج عليك بأسماء الله ألا تبدو لنا .
قال القاضي : ثبت في الصحيح { والمرسلات عرفا } وإن فاه لرطب بها ، حتى خرجت حية من غار ، فبادرناها ، فدخلت جحرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وقيت شركم ، ووقيتم شرها ; ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار ولا تحريج } لأنها لم تكن من عوامر البيوت . أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه في غار ، وهو يقرأ : {
وأمر في الصحيح وغيره بقتل الحيات مطلقا من غير إنذار ولا تحريج ، فدل على أن ذلك من الإنذار إنما هو لمن في الحضر ، لا لمن يكون في القفر ، وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ، لقوله في الصحيح : إن بالمدينة جنا أسلموا . وهذا لفظ مختص بها ، فتختص بحكمها .
قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ; لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذين لقي ; فروي أنهم كانوا من جن الجزيرة ، وهذا بين يعضده قوله : ونهى عن عوامر البيوت ، وهذا عام . المسألة الخامسة اختلف الناس في إنذارهم والتحريج [ عليهم ] : هل يكون ثلاثة أقوال في ثلاثة أحوال ، أم يكون ثلاثة أقوال في حالة واحدة ؟ والقول محتمل لذلك [ ص: 275 ] ولا يمكن حمله على العموم ، لأنه إثبات لمفرد في نكرة ، وإنما يكون العموم في المفردات إذا اتصلت بالنفي حسبما بيناه في أصول الفقه ، وفيما سبق هاهنا .
والصحيح أنه ثلاث مرات في حالة واحدة ; لأنا لو جعلناها ثلاث مرات في ثلاث حالات لكان ذلك استدراجا لهن وتعريضا لمضرتهن ، ولكن إذا ظهرت تنذر كما تقدم ، فإن فرت وإلا أعيد عليها القول فإن فرت وإلا أعيد عليها الإنذار ثلاثا ، فإن فرت وإلا أعيد لها الإنذار ، فإن فرت وغابت وإلا قتلت المسألة السادسة قال من لم يفهم أو من لم يسلم : كيف ينذر بالقول ويحرج بالعهد على البهائم والحشرات ، وهي لا تعقل الأقوال ، ولا تفهم المقاصد والأغراض ؟ قلنا : الحيات على قسمين : قسم حية على أصلها ، فبيننا وبينها العداوة الأصلية في معاضدة إبليس على آدم ، وإلى هذا وقعت الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما سالمناهن منذ حاربناهن .
فهذا القسم يقتل ابتداء من غير إنذار ولا إمهال وعلامته البتر والطفى لقوله صلى الله عليه وسلم : { } ; فإن كانت على غير هذه الهيئة احتمل أن تكون حية أصلية ، واحتمل أن تكون جنيا [ تصور ] بصورتها ، فلا يصح الإقدام بالقتل على المحتمل ، لئلا يصادف منهيا عنه حسبما يروى للعروس اقتلوا الأبتر وذا الطفيتين بالمدينة حين قتل الحية ، فلم يعلم أيهما كان أسرع موتا هو أم الحية .
ويكشف هذا الخفاء الإنذار ، فإن صرم كان علامة على أنه ليس بمؤمن ، أو أنه من جملة الحيات الأصليات ، إذ لم يؤذن للجن في التصور على البتر والطفى ، ولو تصورت في هذا كتصورها في غيره لما كان لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق بالقتل في ذين والإنذار في سواهما معنى . وإنما تعلق البليد والمرتاب بعدم فهمهن ، فيقال : إيه انظر إلى [ ص: 276 ] التقسيم ، إن كنت تريد التسليم لا يخلو أن تكون حية جنية أو أصلية ، فإن كانت جنية فهي أفهم منك ، وإن كانت أصلية فصاحب الشرع أذن في الخطاب ، ولو كان لمن لا يفهم لكان أمرا بالتلاعب . ولا يجوز ذلك على الأنبياء . فإن شك في النبوة ، أو في خلق الجن ، أو في صفة من هذه الصفات فلينظر في المقسط والمتوسط والمشكلين يعاين الشفاء من هذا الإشكال إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : إنما يحتاج الإنذار للتفرقة بين الجان والحيوان ، فإن كف فهو جن مؤمن ، وإلا كان كافرا أو حيوانا .
قلنا : أما الحيوان فقد جعلت له علامة . وأما غيره فقد خص بالإنذار ; والحيوان يفهم بالإنذار كما يفهم بالزجر ; ولهذا تؤدب البهيمة . والله أعلم . .