المسألة السادسة : { الذي بيده عقدة النكاح أو يعفو } وهي معضلة اختلف العلماء فيها : فقيل : هو الزوج ; قاله علي وشريح وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم ومجاهد ، واختاره والثوري أبو حنيفة في أصح قوليه . والشافعي
[ ص: 294 ] ومنهم من قال : إنه الولي ; قاله ، ابن عباس والحسن ، وعكرمة ، ، وطاوس ، وعطاء ، وأبو الزناد ، وزيد بن أسلم ، وربيعة ، وعلقمة ، ومحمد بن كعب ، وابن شهاب ، وأسود بن يزيد ، وشريح الكندي والشعبي ، . وقتادة
واحتج من قال : إنه الزوج بوجوه كثيرة ، لبابها ثلاثة : الأول : أن الله تعالى ذكر الصداق في هذه الآية ذكرا مجملا من الزوجين ، فحمل على المفسر في غيرها ، وقد قال الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } فأذن الله تعالى للزوج في قبول الصداق إذا طابت نفس المرأة بتركه .
وقال أيضا : { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا }
فنهى الله تعالى الزوج أن يأخذ مما أتى المرأة إن أراد طلاقها .
الثاني : قوله تعالى : { إلا أن يعفون } يعني النساء ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح : يعني الزوج ، معناه يبذل جميع الصداق ، يقال : عفا بمعنى بذل ، كما يقال : عفا بمعنى أسقط .
ومعنى ذلك وحكمته : أن المرأة إذا أسقطت ما وجب لها من نصف الصداق تقول هي : لم ينل مني شيئا ولا أدرك ما بذل فيه هذا المال بإسقاطه ، وقد وجب إبقاء للمروءة واتقاء في الديانة . ويقول الزوج : أنا أترك المال لها لأني قد نلت الحل وابتذلتها بالطلاق فتركه أقرب للتقوى ، وأخلص من اللائمة .
الثالث : أنه تعالى قال : { ولا تنسوا الفضل بينكم } وليس لأحد في هبة مال لآخر فضل ; وإنما ذلك فيما يهبه المفضل من مال نفسه ، وليس للولي حق في الصداق .
واحتج من قال : إنه الولي بوجوه كثيرة ; نخبتها أربعة : الأول : قالوا الذي بيده عقدة النكاح الولي ; لأن الزوج قد طلق ; فليس بيده [ ص: 295 ] عقدة ، ومنه قوله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } وهذا يستمر مع دون الشافعي الذي لا يرى عقدة النكاح للولي . أبي حنيفة
الثاني : أنه لو أراد الأزواج لقال : إلا أن تعفوا أو تعفون ، فلما عدل من مخاطبة الحاضر المبدوء به في أول الكلام إلى لفظ الغائب دل على أن المراد به غيره .
الثالث : أنه تعالى قال : { إلا أن يعفون } يعني يسقطن .
وقوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } لا يتصور الإسقاط فيه إلا من الولي ; فيكون معنى اللفظ الثاني هو معنى اللفظ الأول بعينه ، وذلك أنظم للكلام .
الرابع : أنه تعالى قال : { إلا أن يعفون } يعني يسقطن ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني يسقط ; فيرجع القول إلى النصف الواجب بالطلاق الذي تسقطه المرأة ، فأما النصف الذي لم يجب فلم يجر له ذكر .
المسألة السابعة : في المختار : والذي تحقق عندي بعد البحث والسبر أن الأظهر هو الولي لثلاثة أوجه : أحدها : أن الله تعالى قال في أول الآية : { ثم طلقتموهن } إلى قوله تعالى : { وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } فذكر الأزواج وخاطبهم بهذا الخطاب ، ثم قال : { إلا أن يعفون } فذكر النسوان { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } فهذا ثالث ; فلا يرد إلى الزوج المتقدم إلا لو لم يكن لغيره وجود ، وقد وجد وهو الولي ، فلا يجوز بعد هذا إسقاط التقدير بجعل الثلاث اثنين من غير ضرورة .
الثاني : أن الله تعالى قال : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ولا إشكال في أن الزوج بيده عقدة النكاح لنفسه ، والولي بيده عقدة النكاح لوليته ، على القول بأن الذي يباشر العقد الولي ; فهذه المسألة هي أصول العفو مع ، وقد بيناها قبل ، وشرحناها في مسائل الخلاف . أبي حنيفة
فقد ثبت بهذا أن الولي بيده عقدة النكاح ، فهو المراد ; لأن الزوجين يتراضيان فلا [ ص: 296 ] ينعقد لهما أمر إلا بالولي ، بخلاف سائر العقود ، فإن المتعاقدين يستقلان بعقدهما .
الثالث : إن ما قلنا أنظم في الكلام ، وأقرب إلى المرام ; لأن الله تعالى قال : { إلا أن يعفون } ومعلوم أنه ليس كل امرأة تعفو ، فإن الصغيرة أو المحجورة لا عفو لها ، فبين الله تعالى القسمين ، وقال : { إلا أن يعفون } إن كن لذلك أهلا ، أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ; لأن الأمر فيه إليه .
وكذلك روى ، ابن وهب وابن عبد الحكم ، وابن القاسم عن أنه الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته ; لأن هذين هما اللذان يتصرفان في المال وينفذ لهما القول . مالك
فإن قيل : إنما يتصرف الولي في المال بما يكون حظا لابنته ، فأما الإسقاط فليس بحظ ولا نظر .
قلنا : إذا رآه كان ; فإنا أجمعنا على أنه لو عقد نكاحها بأقل من مهرها نفذ ; وهذا إسقاط محض ، لكنه لما كان نظرا مضى .
فإن قيل : فهو عام في كل ولي ، فلم خصصتموه بهذين ؟ قلنا : كما هو عام في كل زوجة وخص في الصغيرة والمحجورة .
وأما متعلق من قال : إنه الزوج فضعيف ، أما قولهم : إن الله سبحانه ذكر الأزواج في الآيتين اللتين استشهدوا بهما فقد ذكر الولي في هذه الآية ، فجاءت الأحكام كلها مبينة والفوائد الثلاثة معتبرة ، وعلى قولهم يسقط بعض البيان .
وأما قولهم الثاني فلا حجة فيه ; لأن مجيء العفو بمعنى واحد من الجهتين أبلغ في الفصاحة وأوفى في المعنى من مجيئه بمعنيين ; لأن فيه إسقاط أحد العافيين ، وهو الولي المستفاد إذا كان العفو بمعنى الإسقاط .
وأما ندب الزوج إلى إعطاء الصداق كله في الآيتين اللتين ذكروا فذلك معلوم من دليل آخر .
وأما الثالث فلا حجة لهم فيه ; لأن الله تعالى أراد أن يميز الولي عن الزوج والزوجة بمعنى يخصه ، فكنى عنه بقوله تعالى : { الذي بيده عقدة النكاح } بكناية مستحسنة ، فكان ذلك أبلغ في الفصاحة ، وأتم في المعنى ، وأجمع للفوائد .
[ ص: 297 ] وأما الرابع وهو قوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } وتعلقهم بأن الإفضال لا يكون بمال أحد ، وإنما الإفضال يكون بأحد وجهين : أحدهما يكون ببذل ما تملكه يده .
والثاني بإسقاط ما يملك إسقاطه ، كما يتفضل عليه بأن يزوجه بأقل من مهر المثل .