المسألة السادسة : فإن قيل : ، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فأنى يصح أن يتكلموا بالكفر ويعلموه ؟ قلنا : هذا الذي أشكل على بعضهم حتى روي عن وكيف نزل الكفر على الملكين وهم يفعلون ما يؤمرون الحسن أنه قرأ الملكين بكسر اللام ، وروي أنه كان ببابل علجان ، وقد بلغ التغافل أو الغفلة ببعضهم حتى قال : إنما هما داود وسليمان ، وتأول الآية : { وما أنزل على الملكين } أي في أيامهما .
وقوله تعالى : { وما يعلمان من أحد } يعني : الشياطين .
وقد روى المفسرون عن قال : قال لي نافع : أطلعت الحمراء ؟ قلت : طلعت . قال : لا مرحبا بها ولا أهلا ، وأراه لعنها . ابن عمر
قلت : سبحان الله ، نجم مسخر مطيع تلعنه ؟ قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { آدم في الأرض ، فقالت : يا رب ، كيف [ ص: 46 ] صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ فأعلمهم الله سبحانه أنهم لو كانوا مكانهم ، ويحل الشيطان من قلوبهم محله من بني آدم لعملوا بعملهم ، وقد أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني . قالت الملائكة : ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ، وابتليتنا ، لحكمنا بالعدل ، وما عصيناك . فأمرهم سبحانه أن يختاروا منهم ملكين من أفضلهم ، فتعرض لذلك هاروت وماروت وقالا : نحن ننزل ; وأعطنا الشهوات ، وكلفنا الحكم بالعدل . فنزلا ببابل ، فكانا يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا إلى مكانهما ، ففتنا بامرأة حاكمت زوجها اسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيرخت وبالفارسية أقاهيد فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني . قال له الآخر : لقد أردت أن أقول لك ذلك ، فهل لك في أن تعرض لها ؟ قال له الآخر : كيف بعذاب الله . قال : إنا لنرجو رحمة الله . فطلباها في نفسها قالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ; فقضيا لها وقصداها وأرادا مواقعتها ، فقالت لهما : لا أجيبكما لذلك حتى تعلماني كلاما أصعد به إلى السماء ، وأنزل به منها ; فأخبراها ، فتكلمت فصعدت إلى السماء فمسخها الله تعالى كوكبا ، فلما أرادا أن يصعدا ، لم يطيقا فأيقنا بالهلكة ; فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فعلقا ببابل فجعلا يكلمان الناس كلامهما ، وهو السحر . ويقال : كانت الملائكة قبل ذلك يستغفرون للذين آمنوا ، فلما وقعا في الخطيئة استغفروا لمن في الأرض } . إن الملائكة عجت من معاصي بني
قال القاضي : وإنما سقنا هذا الخبر ; لأن العلماء رووه ودونوه فخشينا أن يقع لمن يضل به .
وتحقيق القول فيه أنه لم يصح سنده ، ولكنه جائز كله في العقل لو صح في النقل ، وليس بممتنع أن تقع المعصية من الملائكة ، ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، وتخلق فيهم الشهوات ; فإن هذا لا ينكره إلا رجلان : أحدهما : جاهل لا يدري الجائز من المستحيل ، والثاني : من شم ورد الفلاسفة ، فرآهم يقولون : إن الملائكة روحانيون ، وإنهم لا تركيب فيهم ، وإنما هم بسائط ، وشهوات الطعام والشراب والجماع لا تكون [ ص: 47 ] إلا في المركبات من الطبائع الأربع ، وهذا تحكم في القولين من وجهين : أحدهما : أنهم أخبروا عن الملائكة وكيفيتهم بما لم يعاينوه ، ولا نقل إليهم ، ولا دل دليل العقل عليه .
والثاني : أنهم أحالوا على البسيط أن يتركب ، وذلك عندنا جائز ; بل يجوز عندنا بلا خلاف أن يأكل البسيط ويشرب ويطأ ، ولا يوجد من المركب شيء من ذلك .
وهذا الذي اطرد في البسيط من عدم الغذاء ، وفي المركب من وجود الغذاء عادة إلا أنه غاية القدرة ، وقد مكنا القول في ذلك ومهدناه في الأصول ، وخبر الله تعالى عنهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ويفعلون ما يؤمرون ، صدق لا خلاف فيه ، لكنه خبر عن حالهم ، وهي ما يجوز أن تتغير فيكون الخبر عنها بذلك أيضا ، وكل حق صدق لا خلاف فيه .
وقد قال علماؤنا : إنه خبر عام يجوز أن يدخله التخصيص ، وهذا صحيح أيضا .
وقد روى في تفسيره أنه دخل إليهما في مغارهما وكلما ، وتعلم منهما في زمن الإسلام ، وليس التعلم منهما إلا سماع كلامهما ، وهما إذا تكلما إنما يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تجعل ما تسمع منا سببا للكفر ، كما جعل سنيد السامري ما اطلع عليه من أثر فرس جبريل سببا لاتخاذ العجل إلها من دون الله .
وفي هذا من العبرة : الخشية من سوء العاقبة والخاتمة ، وعدم الثقة بظاهر الحالة ، والخوف من مكر الله تعالى ، فهذا بلعام في الآدميين كهاروت وماروت في الملائكة المقربين ، فأنزلوا كل فن في مرتبته ، وتحققوا مقداره في درجته حسبما رويناه ، ولا تذهلوا عن بعض فتجهلوا جميعه .