قوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء } إلى آخرها : قال القاضي رضي الله عنه : هذا قول مشكل تبلدت فيه ألباب العلماء ، واختلفوا في مقتضاه . فقال في رواية مالك ابن القاسم : موجب العمد القود خاصة ، ولا سبيل إلى الدية إلا برضا من القاتل ، وبه قال أبو حنيفة
وروى أشهب عنه أن ، وبه قال الولي مخير بين أحد أمرين إن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدية . الشافعي
وكاختلافهم اختلف من مضى من السلف قبلهم وروي عن : " العفو أن تقبل الدية في العمد ، فيتبع بمعروف وتؤدى إليه بإحسان " يعني يحسن في الطلب من غير تضييق ، ولا تعنيف ، ويحسن في الأداء من غير مطل ولا تسويف . ابن عباس
ونحوه عن قتادة ومجاهد وعطاء والسدي زاد : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قتادة } ، وكأنه يعني فاتباع بالمعروف لا يزاد على الدية المعروفة في الشرع . من زاد أو ازداد بعيرا يعني في إبل الدية ، فمن أمر الجاهلية
وقال : تفسيره من أعطي من أخيه شيئا من العقل فليتبعه بالمعروف ; فعلى هذا الخطاب للولي ، قيل له : إن أعطاك أخوك القاتل الدية المعروفة فاقبل ذلك منه واتبعه . مالك
وقال أصحاب : تفسيره إذا أسقط الولي القصاص ، وعين له من الواجبين له الدية فاتبعه على ذلك أيها الجاني على هذا المعروف ، وأد إليه بإحسان . الشافعي
وهذا يدور على حرف ، وهو معرفة تفسير العفو ، وله في اللغة خمسة موارد : الأول : العطاء ، يقال : جاد بالمال عفوا صفوا ، أي مبذولا من غير عوض . الثاني : الإسقاط ، ونحوه : { واعف عنا } { } . [ ص: 97 ] الثالث : الكثرة ، ومنه قوله تعالى { وعفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق حتى عفوا } أي كثروا ، ويقال : عفا الزرع ، أي طال . الرابع : الذهاب ، ومنه قوله : عفت الديار . الخامس : الطلب ، يقال : عفيته وأعفيته ، ومنه قوله : ما أكلت العافية فهو صدقة ، ومنه قول الشاعر :
تطوف العفاة بأبوابه كطوف النصارى ببيت الوثن
وإذا كان مشتركا بين هذه المعاني المتعددة وجب عرضها على مساق الآية ، ومقتضى الأدلة ; فالذي يليق بذلك منها العطاء أو الإسقاط ; فرجح الإسقاط ; لأنه ذكر قبله القصاص ، وإذا ذكر العفو بعد العقوبة كان في الإسقاط أظهر . الشافعيورجح وأصحابه العطاء ; لأن العفو إذا كان بمعنى الإسقاط وصل بكلمة " عن " كقوله تعالى : { مالك واعف عنا } وكقوله صلى الله عليه وسلم : { } ، وإذا كانت بمعنى العطاء كانت صلته له ; فترجح ذلك بهذا ; وبوجه ثان ، وهو أن تأويل عفوت لكم عن صدقة الخيل هو اختيار خبر القرآن ، ومن تابعه كما تقدم ; وبوجه ثالث ، وهو أن الظاهر في الجزاء أن يعود على ما كان عليه الشرط ، والجزاء عائد إلى الولي ، فليعد إليه الشرط ، ويكون المراد بمن ، من كان المراد بالأمر بالاتباع . مالك
الرابع : أنه تعالى قال : { شيء } فنكر ، ولو كان المراد القصاص لما نكره ، لأنه معرف ; وإنما يتحقق التنكير في جانب الدية وما دونه . وينفصل أصحاب عن ترجيح المالكية بأن العلة تتحقق إذا كان معنى عفا أسقط ; لأن تفسيره " ترك " وكلمة " له " تتصل بترك ، كما تتصل بأخذ [ ص: 98 ] الشافعي
وأما قول فقد اختلف في ذلك ; فروي عنه أنه قال بمثل قولنا ، وأما الجزاء فقد يعود على من لا يعود عليه الشرط ، فتقول : من دخل من عبيدي الدار فصاحبه حر ، وإن دخل عمرو الدار فعبدي حر ، وأما فصل النكرة فغير لازم ; فإن القصاص قد يكون نكرة وهو إذا عفا أحد الأولياء فتبعض القصاص فيعود البعض منكرا . ابن عباس
وهذا كما ترون تعارض عظيم ، وإشكال بين ، وترجيح من الوجهين ظاهر ، إلا أن رواية أشهب أظهر لوجهين : أحدهما الأثر ، والآخر النظر ; أما الأثر فقوله عليه السلام : { } . فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يفدي وإما أن يقتل
وقد ذكرنا في شرح الصحيح كيفية الروايات واستيفاء ما يتعلق بالحديث .
ولبابه هاهنا أن الحرف الأول فيه روايتان : إحداهما : { } . فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين
والرواية الثانية : { } . فمن قتل فهو مخير
وفي الحرف الثاني ست روايات : الأولى : { } . إما أن يعقل وإما أن يقاد
الثانية : { } . أن يعقل أو يقاد
الثالثة : { } . إما أن يفدي وإما أن يقتل
الرابعة : { } . إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل
الخامسة : { } . إما أن يعفو أو يقتل
السادسة : { } . إما أن يقتل أو يقاد
وإذا نزلت الرواية الأخرى على الأولى جاء منها اثنا عشر تنزيلا : [ ص: 99 ] الأول : { } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية ، وإما أن يتفق مع صاحبه على مفاداة معلومة . فمن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ; إما أن يعقل أو يقاد
التنزيل الثاني : في قوله : { } ، ويكون معناه : إما أن يأخذ الدية أو يأخذ القود . يعقل أو يقاد
التنزيل الثالث : في قوله : { } . يفدي أو يقتل مثله
التنزيل الرابع : في قوله : { } ، يكون معناه إما أن يعطي الدية له أو يقاد : يمكن من القود ، وكذا أهل القتيل ; لأنه الحقيقة ، وما تقدم من العبارة عنه إنما كان مجازا في الإخبار به عن وليه . إما أن يعطي الدية أو يقاد أهل القتيل
التنزيل الخامس : في قوله : { } ، وهي رواية إما أن يعفو أو يقتل الترمذي ، وهي صحيحة متقنة مضبوطة مفهومة جلية ، وتكون العبارة عنه بأنه يفعل ذلك إن كان جريحا حقيقة ، أو يعبر عن وليه به مجازا ; لأنه سلطان الأمر .
قال الله سبحانه : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } .
التنزيل السادس : في قوله : { } ، تقديره إما أن يقاد به القاتل برضاه أو يقتل ، وكذلك تتنزل التقديرات الستة على الرواية الثانية بإسقاط قوله : له قتيل ، ويكون قوله : من قتل عبارة عن فعله في حال جرحه قبل موته ، أو يعبر عن وليه به ، فهذا وجه الادكار من الأثر بالنظر . يقتل أو يقاد
وأما طريق المعنى والنظر ، فإن الولي أو القاتل إذا وقع العفو منهما بالدية ، فإنه واجب على القاتل قبوله دون اعتبار رضا القاتل ; لأنه عرض عليه بقاء نفسه بثمن مثله ، كما لو عرض عليه بقاء نفسه في المخمصة بقيمة الطعام للزمه ، يؤكده أنه يلزمه إبقاء نفسه بمال الغير إذا وجده في المخمصة فأولى أن يلزمه إبقاء نفسه بماله .