[ ص: 13 ] نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها ( حديث شريف )
بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك يا من شرح صدورنا بنيل الأوطار من علوم السنة ، وأفاض على قلوبنا من أنوار معارفها ما أزاح عنا من ظلم الجهالات كل دجنة . وحماها بحماة صفدوا بسلاسل أسانيدهم الصادقة أعناق الكذابين . وكفاها بكفاة كفوا عنها أكف غير المتأهلين من المنتابين المرتابين . فغدا معينها الصافي غير مقذر بالأكدار . وزلال عذبها الشافي غير مكدر بالأقذار .
والصلاة والسلام على المنتقى من عالم الكون والفساد . المصطفى لحمل أعباء أسرار الرسالة الإلهية من بين العباد . المخصوص بالشفاعة العظمى في يوم يقول فيه كل رسول : نفسي نفسي ، ويقول : " أنا لها أنا لها " .
القائل : " بعثت إلى الأحمر والأسود " أكرم بها مقالة ما قالها نبي قبله ولا نالها . وعلى آله المطهرين من جميع الأدناس والأرجاس . الحافظين لمعالم الدين عن الاندراس والانطماس وعلى أصحابه الجالين بأشعة بريق صوارمهم دياجر الكفران . الخائضين بخيلهم ورجلهم لنصرة دين الله بين يدي رسول الله كل معركة تتقاعس عنها الشجعان ، وبعد
فإنه لما كان الكتاب الموسوم بالمنتقى من الأخبار في الأحكام . مما لم ينسج على بديع منواله ولا حرر على شكله ومثاله أحد من الأئمة الأعلام . قد جمع من السنة المطهرة ما لم يجتمع في غيره من الأسفار . وبلغ إلى غاية في الإحاطة بأحاديث الأحكام تتقاصر عنها الدفاتر الكبار .
وشمل من دلائل المسائل جملة نافعة تفنى دون الظفر ببعضها طوال الأعمار . وصار مرجعا لجلة العلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل لا سيما في هذه الديار وهذه الأعصار . فإنها تزاحمت على مورده العذب أنظار المجتهدين . وتسابقت على الدخول في أبوابه أقدام الباحثين من المحققين . وغدا ملجأ للنظار يأوون إليه . ومفزعا للهاربين من رق التقليد يعولون عليه . وكان كثيرا ما يتردد الناظرون في صحة بعض دلائله . ويتشكك الباحثون في الراجح والمرجوح عند تعارض بعض مستندات مسائله . حمل حسن الظن بي جماعة من حملة العلم بعضهم من مشايخي على أن التمسوا مني القيام بشرح هذا الكتاب .
وحسنوا لي السلوك في هذه [ ص: 14 ] المسالك الضيقة التي يتلون الخريت في موعرات شعابها والهضاب . فأخذت في إلقاء المعاذير . وأبنت تعسر هذا المقصد على جميع التقادير وقلت : القيام بهذا الشأن يحتاج إلى جملة من الكتب يعز وجودها في هذه الديار . والموجود منها محجوب بأيدي جماعة عن الأبصار . بالاحتكار والادخار كما تحجب الأبكار . ومع هذا فأوقاتي مستغرقة بوظائف الدرس والتدريس ، والنفس مؤثرة لمطارحة مهرة المتدربين في المعارف على كل نفيس .
وملكتي قاصرة عن القدر المعتبر في هذا العلم الذي قد درس رسمه ، وذهب أهله منذ أزمان قد تصرمت ، فلم يبق بأيدي المتأخرين إلا اسمه لا سيما وثوب الشباب قشيب ، وردن الحداثة بمائها خصيب .
ولا ريب أن لعلو السن وطول الممارسة في هذا الشأن أوفر نصيب . فلما لم ينفعني الإكثار من هذه الأعذار ولا خلصني من ذلك المطلب ما قدمته من الموانع الكبار ، صممت على الشروع في هذا المقصد المحمود . وطمعت أن يكون قد أتيح لي أني من خدم السنة المطهرة معدود . وربما أدرك الطالع شأو الضليع وعد في جملة العقلاء المتعاقل الرقيع ، وقد سلكت في هذا الشرح لطول المشروح مسلك الاختصار . وجردته عن كثير من التعريفات والمباحثات التي تفضي إلى الإكثار ، لا سيما في المقامات التي يقل فيها الاختلاف ، ويكثر بين أئمة المسلمين في مثلها الائتلاف .
وأما في مواطن الجدال والخصام فقد أخذت فيها بنصيب من إطالة ذيول الكلام ; لأنها معارك تتبين عندها مقادير الفحول . ومفاوز لا يقطع شعابها وعقابها إلا نحارير الأصول ، ومقامات تتكسر فيها النصال على النصال . ومواطن تلجم عندها أفواه الأبطال بأحجار الجدال . ومواكب تعرق فيها جباه رجال حل الإشكال والإعضال .
وقد قمت ولله الحمد في هذه المقامات مقاما لا يعرفه إلا المتأهلون . ولا يقف على مقدار كنهه من حملة العلم إلا المبرزون . فدونك يا من لم يذهب ببصر بصيرته أقوال الرجال . ولا تدنست فطرة عرفانه بالقيل والقال . شرحا يشرح الصدور ويمشي على سنن الدليل وإن خالف الجمهور ، وإني معترف بأن الخطأ والزلل هما الغالبان على من خلقه الله من عجل ، ولكني قد نصرت ما أظنه الحق بمقدار ما بلغت إليه الملكة .
ورضت النفس حتى صفت عن قذر التعصب الذي هو بلا ريب الهلكة . وقد اقتصرت فيما عدا هذه المقامات الموصفات على بيان حال الحديث وتفسير غريبه ، وفيه يستفاد منه بكل الدلالات ، وضممت إلى ذلك في غالب الحالات الإشارة إلى بقية الأحاديث الواردة في الباب مما لم يذكر في الكتاب لعلمي بأن هذا من أعظم الفوائد التي يرغب في مثلها أرباب الألباب من الطلاب . ولم أطول ذيل هذا الشرح بذكر تراجم رواة [ ص: 15 ] الأخبار ; لأن ذلك مع كونه علما آخر يمكن الوقوف عليه في مختصر من كتب الفن من المختصرات الصغار .
وقد أشير في النادر إلى ضبط اسم راو أو بيان حاله على طريق التنبيه . لا سيما في المواطن التي هي مظنة تحريف أو تصحيف لا ينجو منه غير النبيه . وجعلت ما كان للمصنف من الكلام على فقه الأحاديث وما يستطرده من الأدلة في غضونه من جملة الشرح في الغالب ، ونسبت ذلك إليه ، وتعقبت ما ينبغي تعقبه عليه ، وتكلمت على ما لا يحسن السكوت عليه مما لا يستغني عنه الطالب ، كل ذلك لمحبة رعاية الاختصار وكراهة الإملال بالتطويل والإكثار ، وتقاعد الرغبات وقصور الهمم عن المطولات .
وسميت هذا الشرح لرعاية التفاؤل . الذي كان يعجب المختار . نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار والله المسئول أن ينفعني به ومن رام الانتفاع به من إخواني ، وأن يجعله من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني . وقبل الشروع في شرح كلام المصنف نذكر ترجمته على سبيل الاختصار فنقول : هو الشيخ الإمام علامة عصره المجتهد المطلق ، أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن محمد بن علي بن عبد الله الحراني المعروف بابن تيمية .
قال الذهبي في النبلاء : ولد سنة تسعين وخمسمائة تقريبا ، وتفقه على عمه ، وقدم الخطيب بغداد وهو مراهق مع السيف ابن عمه ، وسمع من أحمد ابن سكينة وابن طبرزد ويوسف بن كامل ، وعدة ، وسمع بحران من حنبل وعبد القادر الحافظ ، وتلا بالعشر على الشيخ عبد الواحد بن سلطان . حدث عنه ولده شهاب الدين والدمياطي وأمين الدين بن شقير وعبد الغني بن منصور ومحمد بن البزار والواعظ محمد بن عبد المحسن وغيرهم ، وتفقه وبرع واشتغل وصنف التصانيف ، وانتهت إليه الإمامة في الفقه ودرس القراءات ، وصنف فيها أرجوزة . تلا عليه الشيخ القيرواني . وحج في سنة إحدى وخمسين على درب العراق ، وابتهر علماء بغداد لذكائه وفضائله والتمس منه أستاذ دار الخلافة محيي الدين بن الجوزي الإقامة عندهم فتعلل بالأهل والوطن .
قال الذهبي : سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول : كان الشيخ ابن مالك يقول : ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد . قال الشيخ : وكانت في جدنا حدة ، اجتمع ببعض الشيوخ وأورد عليه مسألة ، فقال : الجواب عنها من ستين وجها : الأول كذا ، والثاني [ ص: 16 ] كذا ، وسردها إلى آخرها ، وقد رضينا عنك بإعادة أجوبة الجميع فخضع له وابتهر . قال العلامة ابن حمدان : كنت أطالع على درس الشيخ وما أبقي ممكنا ، فإذا أصبحت وحضرت ينقل أشياء غريبة لم أعرفها . قال الشيخ تقي الدين : وجدناه عجيبا في سرد المتون وحفظ المذاهب بلا كلفة ، وسافر مع ابن عمه إلى العراق ليخدمه وله ثلاث عشرة سنة ، فكان يبيت عنده يسمعه يكرر مسائل الخلاف فيحفظ المسألة .
شيخه في النحو والفرائض ، وأبو البقاء وأبو بكر بن غنيمة شيخه في الفقه ، وأقام ببغداد ستة أعوام مكبا على الاشتغال ، ثم ارتحل إلى بغداد قبل العشرين وستمائة ، فتزيد من العلم وصنف التصانيف مع الدين ، والتقوى وحسن الاتباع . وتوفي بحران يوم الفطر سنة اثنتين وخمسين وستمائة . وإنما قيل لجده : تيمية ; لأنه حج على درب تيماء فرأى هناك طفلة ، فلما رجع وجد امرأته قد ولدت له بنتا فقال : يا تيمية يا تيمية فلقب بذلك .
وقيل : إن أم جده كانت تسمى تيمية ، وكانت واعظة ، وقد يلتبس على من لا معرفة له بأحوال الناس صاحب الترجمة هذا بحفيده شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم شيخ ابن القيم الذي له المقالات التي طال بينه وبين أهل عصره فيها الخصام ، وأخرج من مصر بسببها ، وليس الأمر كذلك .
قال في تذكرة الحفاظ في ترجمة شيخ الإسلام : هو أحمد بن المفتي عبد الحليم بن الشيخ الإمام المجتهد عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني وعم المصنف الذي أشار الذهبي في أول الترجمة أنه تفقه عليه ، ترجم له ابن خلكان في تاريخه فقال : هو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله المعروف بابن تيمية الحراني الملقب فخر الدين الخطيب الواعظ الفقيه الحنبلي كان فاضلا تفرد في بلده بالعلم .
ثم قال : وكانت إليه الخطابة بحران ولم يزل أمره جاريا على سداد ، ومولده في أواخر شعبان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بمدينة حران ، وتوفي بها في حادي عشر صفر سنة إحدى وعشرين وستمائة ، ثم قال : وكان أبوه أحد الأبدال والزهاد .