فاحتجنا في قبول الفيض منه جل وعلا إلى واسطة له وجه تجرد ونوع تعلق ، فبوجه التجرد يستفيض من الحق ، وبوجه التعلق يفيض علينا ، وهذه الواسطة هم الأنبياء ، وأعظمهم رتبة وأرفعهم منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم ، فذكر عقب ذكره - جل جلاله - تشريفا لشأنه مع الامتثال لأمر الله سبحانه .
ولحديث عند أبي هريرة الزهاوي [ ص: 19 ] بلفظ : { } وكذلك كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع لكونهم متوسطين بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم فإن ملاءمة الآل والأصحاب لجنابه أكثر من ملاءمتنا له . التوسل بالصلاة على الآل والأصحاب
والصلاة في الأصل : الدعاء وهي من الله الرحمة ، هكذا في كتب اللغة ، وقال القشيري : هي من الله لنبيه تشريف وزيادة تكرمة ، ولسائر عباده رحمة . قال في شرح المنهاج : إن معنى قولنا : اللهم صل على محمد : عظمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دعوته وإبقاء شريعته ، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وتضعيف أجره ومثوبته .
وههنا أمر يشكل في الظاهر هو أن الله أمرنا بأن نصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونحن أحلنا الصلاة عليه في قولنا : اللهم صل على محمد وكان حق الامتثال أن نقول : صلينا على النبي وسلمنا ، فما النكتة في ذلك ؟ قال في شرح المنهاج : فيه نكتة شريفة كأننا نقول : يا ربنا أمرتنا بالصلاة عليه وليس في وسعنا أن نصلي صلاة تليق بجنابه ; لأنا لا نقدر قدر ما أنت عالم بقدره صلى الله عليه وسلم ، فأنت تقدر أن تصلي عليه صلاة تليق بجنابه انتهى .
ومحمد علم لذاته الشريفة ، ومعناه الوصفي كثير المحامد ، ولا مانع من ملاحظته مع العلمية كما تقرر في مواطنه . وآثر لفظ النبي لما فيه من الدلالة على الشرف والرفعة على ما قيل : إنه من النبوة ، وهي ما ارتفع من الأرض .
قال في الصحاح : إن جعلت لفظ النبي مأخوذا من ذلك فمعناه أنه شرف على سائر الخلق وأصله غير الهمزة وهو فعيل بمعنى مفعول . والنبي في لسان الشرع : من بعث إليه بشرع فإن أمر بتبليغه فرسول ، وقيل : هو المبعوث إلى الخلق بالوحي لتبليغ ما أوحاه . والرسول قد يكون مرادفا له وقد يختص بمن هو صاحب كتاب . قيل : هو المبعوث لتجديد شرع أو تقريره ، والرسول : هو المبعوث للتجديد فقط . وعلى الأقوال : النبي أعم من الرسول
والأمي : من لا يكتب ، وهو في حقه صلى الله عليه وسلم وصف مادح لما فيه من الدلالة على صحة المعجزة وقوتها باعتبار صدورها ممن هو كذلك ، وذكر المرسل بعد ذكر النبي لبيان أنه مأمور بالتبليغ ، أو صاحب كتاب ، أو مجدد شرع بطريق أدل على هذه الأمور من الطريق الأولى وإن اشتركا في أصل الدلالة على ذلك ، وإيثار هذه الصفة : أعني إرساله إلى الناس كافة لكونه لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء . وكافة منصوب على الحال وصاحبها الضمير الذي في المرسل ، والهاء فيه للمبالغة ، وليس بحال من الناس ; لأن الحال لا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح ، وعند أبي علي وابن كيسان وغيرهما من النحويين أنه يجوز تقدم الحال على الصاحب المجرور ، وقيل : إنه منصوب على صيغة المصدرية ، والتقدير المرسل رسالة كافة .
ورد بأن كافة لا تستعمل إلا حالا . والبشير النذير : المبشر والمنذر وإنما عدل بهما إلى صيغة فعيل لقصد المبالغة . والآل أصله أهل بدليل تصغيره على أهيل . ولو كان أصله غيره لسمع تصغيره عليه ، ولا يستعمل [ ص: 20 ] إلا فيما له شرف في الغالب ، واختصاصه بذلك لا يستلزم عدم تصغيره ، إذ يجوز تحقير من له خطر أو تقليله على أن الخطر في نفسه لا ينافي التصغير بالنسبة إلى من له خطر أعظم من ذلك ، وأيضا لا ملازمة بين التصغير وبين التحقير أو التقليل ; لأنه يأتي للتعظيم كقوله :
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
وللتلطف كقوله :يا ما أميلح غزلانا شدن لنا
. وقد اختلف في تفسير الآل على أقوال يأتي ذكرها في باب ما يستدل به على تفسير آله المصلى عليهم من أبواب صفة الصلاة .والصحب بفتح الصاد وإسكان الحاء المهملتين : اسم جمع لصاحب كركب لراكب ، وقد اختلف في تفسير معنى الصحابي على أقوال : منها أنه من رأى النبي مسلما وإن لم يرو عنه ولا جالسه . ومنهم من اعتبر طول المجالسة . ومنهم من اعتبر الرواية عنه . ومنهم من اعتبر أن يموت على دينه . وبيان حجج هذه الأقوال وراجحها من مرجوحها مبسوط في الأصول وعلم الاصطلاح فلا نطول بذكره .
وذكر السلام بعد الصلاة امتثالا لقوله تعالى: { صلوا عليه وسلموا } وفي معناه أقوال الأول : أنه الأمان أي التسليم من النار . وقيل : هو اسم من أسمائه تعالى ، والمراد : السلام على حفظك ورعايتك متول لهما وكفيل بهما . وقيل : هو المسالمة والانقياد .