قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين   
فيه سبع مسائل : 
الأولى : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل : 
( الأول ) : أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنا ، وتبشيع أمره ، وأنه محرم على المؤمنين . واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ . ويريد بقوله لا ينكح أي لا يطأ ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع . وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين ، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا ؛ فالمعنى : الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين ، أو من هي أحسن منها من المشركات . وقد روي عن ابن عباس ،  وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء . وأنكر ذلك الزجاج  وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج . وليس كما قال ؛ وفي القرآن حتى تنكح زوجا غيره  وقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم في ( البقرة ) . وذكر الطبري  ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير ،   وابن عباس ،  وعكرمة ،  ولكن غير مخلص ، ولا مكمل . وحكاه  الخطابي ،  عن ابن عباس ،  وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية ، ويفيد أنه زنا في الجهتين ؛ فهذا قول . 
( الثاني ) ما رواه أبو داود ،   والترمذي ،  عن عمرو بن شعيب ،  عن أبيه ، عن جده أن مرثد بن أبي مرثد  كان يحمل الأسارى بمكة ،  وكان بمكة  بغي يقال لها ( عناق    ) وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ؛ أنكح عناق  ؟ قال : فسكت عني ؛ فنزلت والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك  ؛ فدعاني فقرأها علي وقال : لا تنكحها   . لفظ أبي داود ،   [ ص: 156 ] وحديث الترمذي  أكمل . قال  الخطابي    : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة ، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ . 
( الثالث ) : أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح امرأة يقال لها ( أم مهزول    ) وكانت من بغايا الزانيات ، وشرطت أن تنفق عليه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ قاله عمرو بن العاص ،  ومجاهد    . 
( الرابع ) : أنها نزلت في أهل الصفة  وكانوا قوما من المهاجرين ،  ولم يكن لهم في المدينة  مساكن ، ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد ، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل ، وكان بالمدينة  بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة والطعام ؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك ؛ قاله ابن أبي صالح    . 
( الخامس ) : ذكره الزجاج ،  وغيره عن الحسن ،  وذلك أنه قال : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة ، قال : وهذا حكم من الله ، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة . وقال  إبراهيم النخعي  نحوه . وفي مصنف أبي داود ،  عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله   . وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي    - رضي الله عنه - بينهما   . قال  ابن العربي    : وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا ، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك ؟ وعلى أي أصل يقاس من الشريعة . 
قلت : وحكى هذا القول إلكيا  عن بعض أصحاب  الشافعي  المتأخرين ، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية  فرق بينهما لظاهر الآية . قال إلكيا    : وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة ، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك ؛ وهذا في غاية البعد ، وهو خروج عن الإسلام بالكلية ، وربما قال هؤلاء : إن الآية منسوخة في المشرك خاصة دون الزانية . 
( السادس ) أنها منسوخة ؛ روى مالك ،  عن يحيى بن سعيد ،  عن  سعيد بن المسيب  قال : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك  قال : نسخت هذه الآية   [ ص: 157 ] التي بعدها وأنكحوا الأيامى منكم  ؛ وقاله ابن عمرو ،  قال : دخلت الزانية في أيامى المسلمين . قال  أبو جعفر النحاس    : وهذا القول عليه أكثر العلماء . وأهل الفتيا يقولون : إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها . وهو قول ابن عمر ،  وسالم ،   وجابر بن زيد ،   وعطاء ،   وطاوس ،   ومالك بن أنس ،  وهو قول أبي حنيفة ،  وأصحابه . وقال  الشافعي    : القول فيها كما قال  سعيد بن المسيب ،  إن شاء الله هي منسوخة . قال ابن عطية    : وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي . قال  ابن العربي    : والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس  أو العقد ؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه : لا يكون زنا إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنا من الجهتين ؛ ويكون تقدير الآية : وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك ؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس ،  وهو معنى صحيح . فإن قيل : فإذا زنى بالغ بصبية ، أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى ؛ فهذا زان نكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم . قلنا : هو زنى من كل جهة ، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه . وإن أريد به العقد كان معناه : أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها  يكون بمنزلة الزاني ، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك . وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا . وقيل : ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية ؛ إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية ، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان ، فكأنه قال : لا ينكح الزانية إلا زان ؛ فقلب الكلام ، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها ، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني . 
الثانية : في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية  صحيح . وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح ، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته ؛ وهذا على أن الآية منسوخة . وقيل إنها محكمة . وسيأتي . 
الثالثة : روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر    - رضي الله عنه - فجلدهما مائة جلدة ، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه ، ونفاهما سنة   . وروي مثل ذلك عن عمر ،   وابن مسعود ،  وجابر    - رضي الله عنهم - . وقال ابن عباس    : أوله سفاح وآخره نكاح . ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره ، فما سرق حرام وما اشترى حلال . وبهذا أخذ  الشافعي ،   وأبو حنيفة ،  ورأوا أن الماء لا حرمة له . وروي عن ابن مسعود   [ ص: 158 ]   - رضي الله عنه - أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا   . وبهذا أخذ مالك    - رضي الله عنه - ؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ؛  لأن النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ؛ فيختلط الحرام بالحلال ، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة . 
الرابعة : قال ابن خويز منداد    : من كان معروفا بالزنا ، أو بغيره من الفسوق معلنا به ، فتزوج إلى أهل بيت ستر ، وغرهم من نفسه ، فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه ؛ وذلك كعيب من العيوب ، واحتج بقوله - عليه السلام - : لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله   . قال ابن خويز منداد    . وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق ، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره ؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا . 
الخامسة : قال قوم من المتقدمين : الآية محكمة غير منسوخة ، وعند هؤلاء : من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته ، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها . وقال قوم من هؤلاء : لا ينفسخ النكاح بذلك ، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ، ولو أمسكها أثم ، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني ، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح . 
السادسة : وحرم ذلك على المؤمنين  أي نكاح أولئك البغايا ؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد    - عليه السلام - ، ومن أشهرهن عناق    . 
السابعة : حرم الله تعالى الزنا في كتابه ؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد . وهذا قول مالك ،   والشافعي ،   وأبي ثور    . وقال أصحاب الرأي  في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج  لم يحد . قال ابن المنذر    : دار الحرب ودار الإسلام سواء ، ومن زنى فعليه الحد ، على ظاهر قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة    . 
				
						
						
